تحريض ممنهج.. كيف هيّأت حملات التشويه اغتيال إفتهان المشهري؟ (تحليل خاص)

تحريض ممنهج.. كيف هيّأت حملات التشويه اغتيال إفتهان المشهري؟ (تحليل خاص)

في صباح اليوم الذي اغتيلت فيه مديرة صندوق النظافة والتحسين بمحافظة تعز إفتهان المشهري، بدا أن المدينة لم تستفق على وقع رصاص غادر فقط، فقد كانت امتداداً لمشهدٍ طويل من التحريض والكراهية سبق الجريمة بوقت كافٍ.

فجريمة اغتيال المشهري في 18 سبتمبر/ أيلول الجاري، لم تكن حدثاً آنيا وإنما سبق أن جُعلت لأسابيع وأشهر هدفًا لحملات تشويه منظمة، أغلبها بأسماء وهمية تستخدمها جهات سياسية لتوجيه رسائل معينة.

على سبيل المثال نشر حساب نوال النعمان (اسم وهمي) على منصة "فيسبوك" منشوراً بتاريخ 28 مارس/آذار الماضي، حمل مضامين تحريضية أكثر من كونه تعليقاً على أداء المشهري الإداري، حيث توعدت بشن حملة عليها واتهامها بالغرور في تعاملها مع عُمال النظافة.

وبعد حادثة الاغتيال تبين أن مثل هذه المنشورات التحريضية لم تكن مجرد انتقادات، وإنما عملية تجريد ممنهج من الشرعية الأخلاقية والاجتماعية، عبر وصم الضحية بعبارات جارحة والسخرية من مظهرها، والذي يمثل نموذجًا صريحًا على التحريض المباشر الذي ساهم في رسم صورة ذهنية سلبية للضحية أمام الرأي العام.

وفي مجتمع شديد الحساسية تجاه المرأة، تصبح هذه الاتهامات بمثابة حكم اجتماعي، فلم تعد المشهري موظفة عامة بنظرهم، وصُورت كخصم أخلاقي ومصدر استفزاز، مما شكَّل بيئة عدائية مهدت الطريق للجريمة.

وكان الهدف الأول من الحملات التحريضية هذه، هو عزل افتهان عن حاضنتها الشعبية، فهي مسؤولة معروفة بقربها من المواطنين البسطاء، وقدرتها على التواصل مع العمال والميدان، فحولتها في الخيال العام وربما في خيال منفذ الجريمة إلى شخصية "متغطرسة وقليلة الأدب" حسب وصف منشور نوال النعمان.

 

تحريض ممنهج

 

لا يمكن النظر إلى المنشورات التحريضية بمعزل عن سلسلة من التحركات الإعلامية والسياسية التي سبقت حادثة الاغتيال، فبالإضافة إلى ما ظهر من تتبع للنشاطات على مواقع التواصل، يمكن رصد عدة مؤشرات على أن التحريض لم يكن فردياً، وإنما أقرب إلى شبكة منظمة تعمل بخطاب متكرر ومتشابه.

ومنشور نوال النعمان لم يكن استثناءً، فخلال الأشهر السابقة للجريمة، رصد ناشطون لاحقاً عشرات الحسابات التي كررت الهجوم نفسه على المشهري، مستخدمة نفس المفردات تقريبًا، بعض هذه الحسابات تحمل أسماء مجهولة، وأخرى تابعة لشخصيات عامة.

وعند فرز منشورات التحريض التي تناولتها هذه الحسابات، اتضح أنها كانت تعيد إنتاج الخطاب نفسه بأبعاد مختلفة، وهو ما يوحي بوجود غرفة عمليات إلكترونية تابعة لأجندة سياسية بعينها، استخدمتها لتقويض دور المشهري قبل أن تبدأ باستثمار دمها عقب تنفيذ جريمة الاغتيال.

وما إن اغتيلت المشهري، حتى انكشفت خيوط اللعبة بوضوح من خلال تحركات مختلفة، لعل أبرزها تسريب تسجيلات صوتية خاصة بشكل متقطع من اتصالات شخصية للضحية مع أكثر من مسؤول، وانتشرت بسرعة غير مفهومة.

هذا التحرك المنظم يثير تساؤلات، حول إذا ما كان هناك خطة مُعدة سلفًا لاستثمار الحادثة، كما أن التوقيت وطبيعة الجريمة يوحيان بأنها لم تكن حادثة فردية، وإنما تقرأ كفرصة سياسية.

حيث أن التحريض لم يكتف بتشويه صورة المشهري أثناء أداءها لمهامها، وإنما تحول بعد مقتلها إلى أداة لإذكاء النزعات المناطقية والحزبية، فشخصيات عديدة ربطت دمها بخصومات بين الحجرية ومناطق أخرى من تعز، فيما اتجه خطاب آخر مدفوع من جهات حزبية كالناصري والاشتراكي إلى تحميل جهات عسكرية وحزبية المسؤولية مباشرة، دون انتظار نتائج التحقيقات الرسمية.

كما أن هذا التحول في التعامل مع الجريمة مؤشر خطير على تحويل قضيتها إلى ساحة لتصفية الحسابات السياسية، تمامًا كما تحولت حياة المشهري قبلها إلى ميدان للتحريض الممنهج.

والمفارقة أن بعض الجهات التي هاجمت المشهري علناً قبل اغتيالها ووصفتها بأبشع الصفات، كانت نفسها في مقدمة المتباكين على دمها. لاستغلال ما يمكن أن توفره قضيتها من أوراق ضغط سياسية وإعلامية.

 

مناخ الجريمة

 

تكشف حادثة اغتيال إفتهان المشهري، أن جرائم القتل في اليمن وفي تعز تحديدًا، لا تبدأ عند تنفيذها، فالتحريض العلني والتشويه عبر الحسابات الوهمية والتأليب الاجتماعي، كلها أدوات تسبق الجريمة وتُهيئ المناخ المناسب لتفجيرها باعتبارها قضية سياسية ممنهجة وليست جريمة جنائية عادية.

كما سعت أحزاب وشخصيات عامة إلى استثمار الحادثة سياسياً من خلال استخدام دم المشهري كأداة للهجوم على خصومها السياسيين والوحدات العسكرية والأمنية، خصوصًا حزب الإصلاح وقوات الجيش الوطني في محور تعز. 

ومن جهة قانونية، فالتحريض العلني على الكراهية أو التشويه الذي يؤدي إلى أذى يمكن أن يُعتبر جريمة قائمة بذاتها، ففي بلدان أخرى، قد يُسأل أصحاب المنشورات التحريضية أمام القضاء حتى لو لم يشاركوا فعليًا في الجريمة، كما يُعتبر استخدام منصات التواصل لتشويه سمعة امرأة مسؤولة وإسقاطها اجتماعيا أحد أخطر مظاهر انهيار المعايير.

لذا فإن التحقيق في القضية لا يجب أن يقتصر على ملاحقة المنفذين المباشرين، بل ينبغي أن يشمل المحرضين ومديري الحملات الإلكترونية ومن يعيد نشر الكراهية في الوظيفة العامة، فالمسؤولية الأخلاقية والقانونية تبدأ من أول كلمة نُشرت لتجعل امرأة مسؤولة هدفًا مشروعًا للقتل.