تجزئة الصدمة.. الحوثيون يشيعون نخبة من قادتهم بعد 9 أشهر من مقتلهم في غارة أمريكية (تحليل خاص)

تجزئة الصدمة.. الحوثيون يشيعون نخبة من قادتهم بعد 9 أشهر من مقتلهم في غارة أمريكية (تحليل خاص)

شيعت جماعة الحوثي الإرهابية في العاصمة المختطفة صنعاء، الخميس الماضي، نخبة من الخبراء التقنيين والعسكريين، في مشهد خيّم عليه طابع أمني وعسكري صارم، بعد تكتم استمر قرابة تسعة أشهر، ليكون ذلك إقراراً متأخراً بحدوث زلزال استخباراتي وعسكري ضرب مصدر قوتها الحيوي، ما أدى إلى تخبط استراتيجي للجماعة في إدارة المعركة عن بُعد.

وتضمنت القائمة التي أفصح عنها الحوثيون أسماء خبراء مسؤولين عن هندسة وتطوير وتشغيل منظومة الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، وهي المنظومة التي طالما تباهت بها الجماعة كذراع طولي في الإقليم.

فمع تنامي "القوة النوعية" بدعم وإشراف إيراني، تحول الحوثيون من طرف محلي في الصراع الداخلي مع قوات الشرعية إلى لاعب إقليمي يمتلك أدوات ردع استراتيجي قادرة على التأثير في أمن الطاقة العالمي والملاحة الدولية، مما كلَّف الفاعلين الدوليين للحد من تأثيرها.

إلا أن الاعتراف المتأخر بمقتل هؤلاء القادة، وعلى رأسهم مهندس المسيّرات الأول "زكريا حجر" يؤكد صحة التقارير الدولية التي تحدثت يومها، عن استهداف الضربات الأمريكية/ الإسرائيلية بدقة لـ"غرف العمليات السوداء" ومراكز القيادة والسيطرة للحوثيين ما بين مارس ومايو 2025م.

 

المهندس الأول

 

يتقدّم اسم القيادي زكريا عبدالله يحيى حجر، بوصفه الخسارة الأبرز في بنية جماعة الحوثي العسكرية، باعتباره العقل المحرّك لبرنامج الطائرات المسيّرة وأحد أكثر الشخصيات تأثيراً في مسار تطوير القدرات الجوية والصاروخية للجماعة.

فلم يكن زكريا حجر المعروف بالاسم الحركي "أبو يحيى" مجرد قيادي ميداني، وإنما شكّل حلقة مركزية جمعت بين التخطيط التقني ومتابعة التنفيذ العملي وأهمية الارتباط الخارجي الذي يحظى به.

شغل حجر موقع قائد ومؤسس "سلاح الجو المسيّر"، وترأس مركز الدراسات والبحوث للتصنيع العسكري، وهو موقع أتاح له إدارة أخطر ملفات التسلح الحوثي، كما أن انحداره من محافظة صعدة، إلى جانب صلة المصاهرة المباشرة بزعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، منحاه نفوذاً استثنائياً ومكّنته من العمل داخل دوائر القرار العليا دون عوائق تنظيمية.

ويمثّل تكوينه الأكاديمي خروجاً عن النمط التقليدي لقيادات الجماعة، حيث تخرج من كلية الهندسة وعلوم الحاسوب بجامعة الأحقاف بالمكلا، وهو ما استثمره الحرس الثوري الإيراني في تأهيله ليكون خبيراً محلياً في التصنيع العسكري.

ومن هذا الموقع، قاد عمليات توطين السلاح عبر الهندسة العكسية للصواريخ والذخائر المهرّبة، وأسهم في إنتاج نسخ محلية حافظت على جوهرها التقني الإيراني، كما اضطلع بدور ضابط الارتباط الرئيسي مع خبراء فيلق القدس، متولياً نقل الخبرات العملية والتصاميم من طهران إلى الورش السرّية للتجميع والتعديل داخل اليمن.

وقد نشر أحد الناشطين الحوثيين صورة لزكريا أظهرت بوضوح طبيعة المسيّرة المعروضة أمامه، والتي يتبين من شكلها أنها صينية المنشأ ويتم تركيبها وفق الكتالوجات الفنية المرفقة بها، على غرار بقية الأسلحة التي تصل عبر إيران ليجري تجميعها لدى الحوثيين.

وعلى الرغم من حرصه الدائم على العمل في الظل، كشفت صور نادرة نُشر بعضها بعد مقتله عن ظهوره داخل ورش التصنيع العسكري إلى جانب شخصيات قيادية بارزة، من بينها رئيس المجلس السياسي السابق للحوثيين صالح الصماد الذي أعلنت الجماعة عن مقتله نتيجة غارة جوية للتحالف، ورئيس هيئة أركانهم محمد الغماري الذي قُتل لاحقاً.

هذا الظهور المحدود، له دلالة على ترسيخ موقعه ضمن النواة المؤسسة للقدرات الصاروخية للجماعة، وتأكيدا على مكانته داخل الدائرة الضيقة لصنّاع القرار العسكري.

كما أن خطورة الدور الذي يشغله انعكست في إدراجه على قائمة الإرهاب السعودية في أغسطس 2022، على خلفية تورطه في تهريب أسلحة إيرانية وصينية متطورة والمشاركة في تهديد الملاحة في البحر الأحمر، ما جعل مقتله يمثّل خسارة لعنصر أساسي في بنية الجماعة ويصعب عليها تعويضه.

 

الأذرع التنفيذية

 

تكشف قائمة القتلى المُعلن تشييعهم عن هيكل تنظيمي يقوم على إسناد هذه المهمات بالغة الحساسية إلى العائلات الموثوقة، في حرص من الجماعة لضمان أعلى مستويات السرية والتحكم بإدارة العمليات.

فلم يكن زكريا حجر يعمل منفرداً داخل منظومة الطائرات المسيّرة، حيث كان يدير شبكة مغلقة اعتمد فيها على أقاربه المباشرين لتسيير الجوانب التنفيذية والعملياتية لهذا السلاح الاستراتيجي.

وهنا يبرز اسم شقيقه أحمد عبدالله يحيى حجر، المعروف بالاسم الجهادي "أبو هاشم"، بوصفه الذراع التنفيذي للمنظومة، حيث شغل موقع مساعد قائد سلاح الجو المسيّر، وعمل كقيادي رفيع داخل وحدة الطائرات المسيّرة، هذا إلى جانب حضور مباشر في مكتب القيادي الحوثي عبدالملك الدرة أحد أبرز المسؤولين عن هذا السلاح، وفقاً لتقارير استخباراتية متخصصة.

وتمحور دور أحمد عبدالله حجر حول الإشراف الميداني وتحويل الخطط النظرية التي يضعها شقيقه إلى عمليات عسكرية على الواقع، ما يعني مقتله إلى جانب زكريا أفقد الجماعة اثنين من أهم خبراء الطيران المسيَّر.

إلى جانب ذلك، يظهر اسم عبدالله يحيى عبدالله حجر المكنّى "أبو إسماعيل"، كأحد العناصر المحورية في منظومة الإطلاق والتشغيل، فقد اضطلع بدور قيادي داخل ما يسمى بـ"غرفة القيادة والسيطرة"، المسؤولة عن توجيه الضربات الجوية والصاروخية.

وتمثلت مهمته في إدارة العمليات اللوجستية والفنية، وضمان جاهزية منصات الإطلاق، وتنسيق الجوانب التقنية التي تسبق تنفيذ الهجمات، ما يعني أن استهدافه يكشف حجم الاختراق الذي طال أكثر الدوائر حساسية في العمق التشغيلي للسلاح النوعي الذي امتلكه الحوثيون.

 

خسارة ثقيلة

 

إلى جانب الخبراء من عائلة حجر، تكشف قائمة القتلى عن خسارة الحوثيين لاثنين آخرين لا يقلان أهمية عنهم، وهما ضمن كوادر متخصصة تؤدي أدواراً حساسة في تشغيل السلاح على الرغم من كونهما غير معروفين في الواجهة القيادية للجماعة.

فالقيادي حسين يحيى عبدالله الهاشمي، الذي أعلنت الجماعة عن تشييعه هو أحد أبرز الخبراء التقنيين في مجال الطائرات المسيّرة الحوثية، فقد شغل موقعاً فنياً ارتبط بصيانة المنظومات وبرمجتها، وتجهيزها للمهام القتالية المعقّدة، لا سيما تلك التي تتطلب مدى زمنياً وتشغيلياً طويلاً.

ويُشكل مقتله فقدان الجماعة لخبرة تراكمية تتعلق بمعالجة الأعطال الفنية الدقيقة وضمان الجاهزية النهائية للطائرة قبل الإطلاق، وهو دور لا يمكن تعويضه بسرعة في بيئة تعتمد على خبرات محدودة ومغلقة.

أما القيادي محمد خالد يحيى الحيفي، فقد مثّل حلقة الوصل بين التخطيط والتنفيذ الميداني، من خلال مسؤوليته عن عمليات ما يُعرف بـ"القوة النوعية"، وهي التسمية التي تطلقها الجماعة على الوحدات المشتركة للصواريخ والطائرات المسيّرة.

كان الحيفي يدير العمليات على الأرض، ويقوم بتحويل المعلومات الاستخباراتية إلى قرارات عسكرية آنية في الميدان، ما جعل مقتله مؤثراً في تنسيق الضربات لاستهداف خط الملاحة الدولية.

 

اصطياد دقيق

 

ما تعرّضت له القيادات الحوثية نتيجة الضربات الأمريكية/ الإسرائيلية جاء ضمن عملية عسكرية مركّزة استهدفت مراكز ثقل الجماعة في صنعاء ومحيطها، وهو ما كشف التحول الواضح من الضربات التحذيرية التي استهدفت مواقع ومنشآت اقتصادية للجماعة إلى تصفية الأدوات التي تقف خلف خطر السلاح المُهدد للأمن الإقليمي والملاحي.

ووفقاً للمعلومات، فإن زكريا حجر ومساعديه لقوا حتفهم في غارات استهدف حي الجراف ومناطق أخرى في صنعاء، طالت ورش تصنيع ومخابئ سرّية لا يعرف مواقعها سوى نطاق ضيق للغاية من القيادات الحوثية، وهو ما مثَّلَ نقلة نوعية في دقة المعلومات الاستخباراتية التي أُتيحت للجانب الأمريكي والإسرائيلي.

هذا التطور يضع جماعة الحوثي أمام مشاكل أمنية معقّدة، فالوصول إلى شخصيات تعمل في الظل وتتحرك بهويات غير معروفة وضمن إجراءات أمنية مشددة مثل زكريا، يكشف عن خرق استخباراتي عميق داخل الأجهزة الأمنية للجماعة.

ورغم محاولة الجماعة تغطية هذا الفشل عبر حملة اعتقالات واسعة طالت موظفين في منظمات أممية ومحلية، تحت ذريعة التورط في أنشطة تجسسية، إلا أن مراقبين يؤكدون أن مستوى المعلومات المطلوبة لتنفيذ هجمات بهذا الحجم لا يمكن أن تتوفر إلا عبر اختراق مباشر للدائرة المغلقة، أو عبر تقنيات تتبع إلكتروني متقدمة عجزت الجماعة عن تشويشها، ما يضعها أمام تحدي مضاعف لحماية أسرار مركزها القيادي والعسكري.

 

تجزئة الصدمة

 

اتخذ الحوثيون استراتيجية "امتصاص الصدمة"، إذ أن الإعلان المبكر عن مقتل قائد سلاح المسيّرات وطاقمه بالكامل كان كفيلاً بإحداث انهيار حاد في معنويات المقاتلين والبيئة الحاضنة.

ما يجعل تأخير الإعلان يحمل دلالات عميقة تتجاوز البعد الزمني إلى قراءة دقيقة لحالة الجماعة من الداخل، وما رافق تلك المرحلة من ارتباك ومحاولات احتواء للخسائر، بعدما عمل الحوثيون على تسويق أنفسهم كقوة إقليمية قادرة على تهديد الملاحة الدولية.

بالتوازي مع ذلك، عكس التأخير حجم التخبط العملياتي الذي أعقبت خسارتها الفادحة، فإلى جانب هؤلاء الخبراء هناك أسماء لم تعلن الجماعة عنهم مثل مسؤول الدراسات المكنى بـ"أبو الوفاء" ومسؤولي ورش ومختصي إطلاق وخبراء منصات آخرين.

وتشير تقديرات محللين عسكريين إلى أن القوة الصاروخية والمسيّرة للحوثيين كادت تخرج عن الخدمة، واضطرت الجماعة حينها إلى الزج بقوة التصنيع الحربي بقيادة "جهاد المداني" لسد هذا الفراغ، ما خلق تداخلات في الصلاحيات وارتباكاً واضحاً في إدارة العمليات العسكرية.

أما على المستوى السياسي والاجتماعي، فكان تأخير الإعلان والتشييع مرتبطاً بحسابات داخلية، شملت مفاوضات مع أُسر القتلى، وترتيبات لدفنهم في موقع يحمل رمزية خاصة وهو جبل مُطل على صنعاء تُرتب الجماعة لتحويله إلى مزار بغرض تعويض عائلاتهم معنوياً.

كما تستثمر الجماعة توقيت الإعلان مع نهاية العام، من أجل التحضير لمرحلة تحتاج فيها لإعادة تعبئة صفوف، عبر استثمار صور القتلى وسيرهم الذاتية بوصفهم مهندسين ومؤسسين، في محاولة لإلهام مجنّدين وخبراء ناشئين بهدف ترميم ما تصدّع في صورتها الداخلية.

 

ما بعد الإعلان؟

 

لا يمكن النظر إلى الإعلان الحوثي عن مقتل خبراء بهذا الحجم كإجراء عادي وإنما هو اعتراف متأخراً بحجم الكارثة الذي تعرضت لها الجماعة خلال العام 2025م، وهو ما يسلط الضوء على خسائر أصابت عمق منظومتها العسكرية والتقنية.

كما أظهرت دقة الضربات الأمريكية باستهداف هؤلاء الخبراء، انكشاف الغطاء الأمني الذي طالما راهنت عليه الجماعة لحماية قدراتها، وهو ما يفرض على من تبقّى منهم قيوداً أشد في الحركة والتواصل.

وإجمالاً، تبدو هذه الضربات أبعد من مجرد استهداف لمخازن أسلحة أو منصات صواريخ، فمقتل قائد ومؤسس سلاح الجو المسيّر وعدد من طاقمه هو ضرر استراتيجي عميق، وسيحتاج الحوثيون إلى جهد ووقت طويل لتجاوز آثاره.