الحضور الجنوبي في ثورة سبتمبر.. شراكة الدم والنضال في ميلاد الجمهورية (تقرير خاص)

الحضور الجنوبي في ثورة سبتمبر.. شراكة الدم والنضال في ميلاد الجمهورية (تقرير خاص)

ارتفع صدى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1962م في أرجاء اليمن معلناً فصلاً جديداً من تاريخه السياسي، حين أطاح الضباط الأحرار بنظام الإمامة وأعلنوا قيام الجمهورية من صنعاء.

لكن هذا الحدث لم يبقى شأنا شمالياً خالصاً؛ فسرعان ما تخطّى صداها جبال صنعاء وتعز وسواحل الحديدة ليصل إلى عدن ولحج وردفان ويافع، حيث التقط أبناء الجنوب النداء وقرروا أن يكونوا شركاء في صناعة لحظة تاريخية بدّلت وجه اليمن الحديث.

فحينما تلاقت الإرادات تلاشت الحدود، وعبَر أبناء الجنوب إلى الجبهات الشمالية حاملين السلاح والأمل، معتبرين أن دفاعهم عن الجمهورية هو بالضرورة دفاع عن مستقبل اليمن بكل مناطقه.

ومن هذا المنطلق، فإن ثورة 26 سبتمبر لا تُفهم بمعزل عن مشاركات الجنوب كحاضنة وكمحطة انطلاق، كما أن الأحداث الراهنة لا يمكن قراءتها بمعزل عن خيوط الماضي المشترك.

 

ولادة الجمهورية

 

منذ الأيام الأولى للثورة، تجاوب أبناء الجنوب مع نداءات التي كانت تبثها إذاعة صنعاء للدفاع عن الجمهورية الوليدة، فخرجوا بالمظاهرات والندوات المؤيدة، وسرعان ما تحول حماسهم إلى دعم عملي تمثل في قوافل متطوعين من عمال وطلاب ومدرسين، إضافة إلى عسكريين غادروا معسكراتهم لحمل السلاح ضد الحكم الإمامي.

ويؤكد القيادي في التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري علي عبدالله الضالعي، أن أبناء الجنوب أدوا دورًا محورياً في مساندة ثورة 26 سبتمبر 1962 وفي الدفاع عن الجمهورية خلال حصار السبعين، مشيراً إلى أن هذه المساهمة ستظل محفورة في الذاكرة الوطنية.

فقد تدفقت آلاف الكوادر من عدن والمحميات الجنوبية إلى الشمال للانخراط في صفوف الحرس الوطني إلى جانب القوات المسلحة اليمنية والقوات المصرية، فيما تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 64 ألف متطوع عبروا منفذ الراهدة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الثورة قادمين من عدن وحدها.

 في حين واصل آخرون من الضالع وردفان ويافع وبيحان والعوالق طريقهم نحو ميادين القتال، للمشاركة في معارك حرض وصعدة ومأرب وبقية الجبهات. وفقاً القيادي الضالعي.

وعلى الصعيد المادي، يوضح الضالعي في حديثه لـ"المجهر" أن حملات التبرع انتشرت في أرجاء عدن لدعم الثورة في الشمال، حيث قدّم التجار والمواطنون تضحيات لافتة لتثبيت أركان النظام الجمهوري الوليد.

 

من قلب المعركة

 

وصلت الطلائع الأولى إلى مدينة تعز، حيث تولت القيادة العربية المشتركة، بمشاركة قيادات يمنية ومصرية توزيع المتطوعين على الجبهات، وانطلقت بعدها مجموعات الجنوب نحو ثلاث مناطق رئيسية.

كان المحور الأول في خولان شمال صنعاء، حيث التحق أكثر من تسعين مقاتلاً معظمهم من العسكريين القادمين من الصبيحة ولحج، يقودهم الرائد محمد أحمد الدقم، لينضموا إلى جانب القيادي البارز في تنظيم الضباط الأحرار وأول رئيس للجمهورية العربية اليمنية بعد الثورة علي عبد الله السلال.

 وفي الحيمتين غرب صنعاء، التحق نحو مئة متطوع من أبناء عدن، من طلاب ومدرسين وعمال، بقيادة الأستاذ محمد عبده نعمان الحكيمي الذي انتقل من مهنة التعليم إلى قيادة رجال أشداء نحو خنادق القتال للوقوف ضد عودة الإمامة.

أما في لواء حجة وتحديدًا في المحابشة، فقد توافدت مجموعة من مئة وعشرين مقاتلاً أغلبهم من قبائل ردفان، بقيادة الثائر راجح بن غالب لبوزة، لتندمج جهودهم مع الثوار تحت قيادة أحمد الكبسي وآخرين، مجسدة صورة مصغرة عن روح الوحدة اليمنية التي بدأت تتشكل على أرض المعارك.

 

مشاركة فعالة

 

ارتبطت مشاركة الجنوب في ثورة 26 سبتمبر بأسماء تركت بصمتها في تاريخ اليمن الحديث، لأنها تجاوزت مجرد الإحصاءات لتصبح نموذجا للالتزام الوطني والمصير المشترك.

من أبرزهم هؤلاء المشاركين، الفريق محمد قائد سيف قباطي (1933–2007)، ابن مديرية القبيطة في لحج، الذي تلقى تعليمه في عدن والتحق بالكلية الحربية في القاهرة، ليصبح ثاني يمني يتخرج منها عام 1954.

كان قباطي من أوائل الضباط الذين انضموا إلى حركة الضباط الأحرار، ولعب دورًا محوريًا في التنسيق مع الجانب المصري لتسهيل نقل السلاح إلى الثوار شمال اليمن، وليقود كذلك المحور الجنوبي في مواجهة القوات البريطانية.

وبرز كذلك اسم راجح بن غالب لبوزة قائد مجموعة ردفان في جبهة المحابشة، الذي عاد لاحقًا إلى الجنوب ليقود شرارة ثورة 14 أكتوبر 1963 ضد الاحتلال البريطاني، مستشهدًا في أول أيامها، ليصبح رمزًا يجمع بين تجربتي سبتمبر وأكتوبر.

كما أثبت الأستاذ محمد عبده نعمان الحكيمي، المعلم العدني وقائد مجموعة الحيمتين، أن الثورة لم تكن بحاجة فقط إلى القيادات العسكرية، فالنخب المثقفة كانت على قدر من المسؤولية لتحويل الوعي إلى سلاح في وجه الظلم والكهنوت.

وساهمت في الثورة أيضاً شخصيات جنوبية كثيرة، مثل محمد أحمد الدقم من أبناء الصبيحة، والذي قاد مجموعته في جبهة خولان، ومحمد صالح لخرم الضميري الذي واصل الدفاع عن الجمهورية منذ 1964.

وجهَّز محمد حيدرة المقربي الحوشبي مجموعة مقاتلين جنوبيين في تعز بتوجيهات من اللواء حسن العمري، إلى جانب علي الغزالي الذي تنقل بين تعز والحديدة والمناطق الشمالية الغربية، مشاركًا في العمليات الحربية دفاعًا عن الثورة.

هذه الأسماء ليست سوى نماذج من عشرات الشخصيات والمتطوعين الجنوبيين، الذين استمر بعضهم في مسارهم العسكري والتحق بالكلية الحربية، وتخرجوا قادة بارزين مثل أحمد مهدي المنتصر، ليشكلوا جسراً حيويًا بين الجنوب والشمال في بناء الدولة الجمهورية الوليدة.

 

وحدة النضال

 

تواصلت المشاركة الجنوبية عبر فصائل جيش التحرير والتنظيم الشعبي التابع لجبهة تحرير جنوب اليمن خلال معركة فك حصار السبعين عن صنعاء، ولم تقتصر جهودهم على السنوات الأولى للثورة.

ويقول القيادي الناصري وعضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي علي عبدالله الضالعي، إن كتائب مقاتلة تحركت من تعز والحديدة نحو جبهات يسلح وبني مطر والحيمة، وخاض المقاتلون الجنوبيون معارك ضارية إلى جانب الجيش والقبائل.

ولأجل فك الحصار عن صنعاء، قدم الجنوبيون عشرات الشهداء، من بينهم قيادات بارزة مثل سالم يسلم الهارش من شبوة، وهاشم عمر إسماعيل من عدن، ونصر بن سيف من ردفان، والملازم أول هائل عبدالله ثابت. وفقا للضالعي.

ويخلص القيادي الضالعي إلى التأكيد بأن مساهمة أبناء الجنوب في ثورة 26 سبتمبر وفك حصار السبعين شكلت محطة كبرى تجسّد وحدة النضال اليمني في مواجهة الاستعمار والاستبداد معاً، وهي صورة ناصعة للتضامن الوطني والقومي في تلك المرحلة المفصلية.

 

شريك أصيل

 

شكلت المشاركة الجنوبية في ثورة 26 سبتمبر شكّلت مساهمة فعلية وحاسمة في مواجهة نظام الإمامة، ويشير الكاتب والباحث السياسي اليمني عبدالله إسماعيل إلى أن عدن مثلت حاضنة فكرية وسياسية للثوار القادمين من الشمال.

ورحبت عدن حينها بالأدباء والشعراء والكتاب، وصدرت منها الصحف والمجلات المناهضة للنظام الإمامي، فضلاً عن كونها مركزًا للدعم المادي والمعنوي للثورة، ومنطلقاً لطلائع المناضلين مثل محمد محمود الزبيري وآخرين.

ويبين الباحث عبدالله إسماعيل في حديثه لـ"المجهر" أن اللحظة الفارقة التي تجسد وحدة المسار الثوري ظهرت بعد اندلاع ثورة 26 سبتمبر، حين أعلن الرئيس السلال وقحطان الشعبي من صنعاء تأسيس حركة تحرير الجنوب اليمني، ليقودوا الكفاح المسلح في الجنوب وصولاً إلى الاستقلال.

ويؤكد إسماعيل أن ثورتي 26 سبتمبر في الشمال و14 أكتوبر في الجنوب لم يكن مسارهما منفصلاً ومثلتا واحدية الثورة اليمنية، مشيرًا إلى أن الأدبيات والوثائق حتى قبل إعلان الوحدة، تؤكد هذا الترابط الوثيق بين التجربتين التاريخيتين.

 

استلهام الدرس

 

يواجه اليمن اليوم خطراً وجوديا يتمثل في جماعة الحوثي الإرهابية، حيث يصفها الكاتب والباحث السياسي اليمني عبدالله إسماعيل بأنها حركة عنصرية مرتبطة بمشروع مدمر يتجاوز الداخل ليصل إلى الإقليم، مشدداً على أن مواجهة هذا المشروع لا تحتمل التجزئة أو الحسابات الضيقة، وإنما تتطلب توحداً شاملاً لكل اليمنيين في الشمال والجنوب والشرق والغرب.

ويشير إسماعيل إلى أن طبيعة المشروع الحوثي تقوم على عقلية ترفض التعددية والمشاركة وتسعى للسيطرة المطلقة، مضيفًا أن خطره لا يقتصر على الداخل اليمني، بل يمتد بأبعاده التخريبية والإقليمية، مما يجعل مواجهته واجبا وطنيا وقوميا على كل اليمنيين.

وأوضح أن هذه الحقيقة باتت مفهومة لدى قطاعات واسعة من اليمنيين، بما فيهم قيادات جنوبية بارزة في المجلس الانتقالي، الذين يرون أن المعركة الجوهرية اليوم تكمن في تحرير العاصمة صنعاء من قبضة الحوثي، مؤكدًا أن أي نجاح أو تعافٍ وطني مستدام لن يتحقق إلا بالقضاء على هذا المشروع الذي يستهدف الجميع.

وختم الباحث عبدالله إسماعيل بالقول، إن اليمنيين اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى لتضافر الجهود من مختلف المناطق لاستكمال تحرير الأراضي المحتلة لدى الحوثيين، معتبراً ذلك الشرط الأساسي لفتح الطريق أمام عملية سياسية حقيقية ومستقبل آمن لليمن.