في خطوة تبدو جزءا من استراتيجية أوسع لإعادة ضبط فوضى المشهد الاقتصادي في البلاد، أعلنت اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات، عن بدء استقبال طلبات المصارفة والتحويل من رجال الأعمال والشركات التجارية اعتبارا من اليوم الأحد، عبر البنوك وشركات الصرافة المعتمدة.
هذه الخطوة إلى جانب كونها إجراء إداري روتيني، فهي تمثل بداية مسار جديد يسعى البنك المركزي اليمني من خلاله إلى استعادة زمام المبادرة في ضبط سوق الصرف، ووضع حد للفوضى التي أحدثتها المضاربات ما أدى إلى أضعاف العملة المحلية.
وكما أوضح محافظ البنك المركزي أحمد غالب، خلال إعلانه عن هذا الإجراء، فإن هذه المرحلة جاءت بعد استكمال الترتيبات الفنية واللوجستية، بما في ذلك إعداد اللوائح النهائية وتحديد قائمة السلع المسموح باستيرادها عبر القنوات الرسمية.
وخلف هذا التصريح، تقف رؤية واضحة تتمثل في إحكام السيطرة على مصادر الطلب على النقد الأجنبي، وتحويلها من السوق السوداء الموازية إلى القنوات النظامية، بما يعزز الشفافية ويعيد بعض الانضباط إلى حركة التجارة الخارجية.
آلية مُشتركة
تتطلب الآلية الجديدة من المستورد تقديم طلب إلى البنك أو شركة الصرافة مرفقاً بالوثائق التي تثبت طبيعة الاستيراد وقيمته، وفي المقابل تتحمل البنوك وشركات الصرافة مسؤولية فحص هذه البيانات بدقة قبل رفعها إلى اللجنة، لتتولى دراستها والبت فيها ومن ثم تصبح الموافقة الرسمية شرطاً أساسياً لدخول أي شحنة عبر المنافذ الجمركية.
وهنا يبرز البعد الأمني والاقتصادي، حيث يربط البنك المركزي نجاح هذه الآلية بقدرتها على الحد من التلاعب في سوق الصرف، وتقليل المخاطر المالية على البنوك وشركات الصرافة الناتجة عن تصنيف جماعة الحوثي كمنظمة إرهابية، وهي معادلة حساسة تتطلب صرامة في التطبيق وتنسيقاً وثيقاً مع الأجهزة الحكومية.
واللافت في الأمر، أن تشكيل اللجنة جاء بقرار من رئيس الوزراء، ويضم ممثلين عن الحكومة والقطاع المصرفي والغرف التجارية، ما يعكس محاولة لإيجاد صيغة شراكة ثلاثية تكاملية بين الدولة والسوق المصرفي والقطاع الخاص.
لكن نجاح هذه الشراكة يتوقف على قدرتها في فرض التزامات متبادلة، حيث لا يكفي أن يلتزم المستوردون بالضوابط، وإنما يجب أيضاً أن تضمن الدولة توافر النقد الأجنبي في الأوقات المناسبة وبأسعار تنافسية، حتى لا تجد السوق السوداء مبرر الاستيراد كضرورة لعودتها إلى الواجهة.
وفي المجمل، يمكن قراءة هذه الخطوة على أنها اختبار حقيقي لمدى قدرة البنك المركزي والحكومة على كسر حلقة الفوضى النقدية والتجارية التي استنزفت الاقتصاد اليمني لسنوات، ولابد أن نجاح التجربة سيفتح الباب أمام سياسات أكثر طموحاً في إدارة النقد الأجنبي أما فشلها، فقد يعيد الأمور إلى نقطة الصفر.
مصلحة المواطن
من منظور اقتصادي أكثر شمولا، يضع المحلل ماجد الداعري تصورا منطقيا لهذه الآلية، حيث يرى أن أولوياتها تميل لكفة المواطن العادي الذي أثقلته موجات الغلاء وتراجع قيمة العملة، أكثر من ميلها للتجار أو حتى لزيادة وتيرة الاستيراد بحد ذاته.
ولتحقيق ذلك، تراهن الحكومة على مزيج من الإجراءات الضبطية والعقابية لمواجهة المضاربات في سوق الصرف، إلى جانب تحسين تحصيل الموارد المحلية وتوظيفها وفق أولويات ملحّة.
وألمح الداعري في حديثه لـ"المجهر" إلى أن مصالح التجار رغم أهميتها، تأتي في المرتبة الثانية ضمن هذه المرحلة الاستثنائية، فسنوات الحرب أفرزت واقعاً استفاد فيه كثير من كبار المستوردين من تدهور العملة، ما انعكس سلباً على القوة الشرائية للمواطن.
وترى الحكومة اليوم، أن على هؤلاء التجار أن يتحملوا جزءاً من كلفة الإصلاحات، باعتبارهم شركاء في المسؤولية الوطنية وفي إعادة بناء الاقتصاد. وفقا لحديثه.
ضخ المدخرات
الآلية الحالية إلى جانب كونها قرار مركزي، هي كذلك شراكة عملية بين الحكومة والبنك المركزي، مدعومة بالقطاع المصرفي ممثلاً بالبنوك وشركات الصرافة، لأنه ووفقاً للصحفي الداعري، فإن تمويل البضائع غير المشمولة بقائمة اللجنة سيكون من مسؤولية البنوك وشركات الصرافة، والتي ستقوم بتزويد عملائها من التجار بالعملة الصعبة التزاماً منها تجاه البنك المركزي وتجاه استقرار العملة.
لكن البعد الأكثر حساسية في هذه العملية هو ما سماه الداعري "الإجراءات الضبطية للصرافين"، حيث أن البنك المركزي يريد أن يضخ مدخرات العملات الأجنبية المحتجزة لدى شركات الصرافة إلى النظام المصرفي، عبر إلزامها بتمويل الاستيراد لعملائها المباشرين.
وهذا المسار يحقق هدفين في آن واحد؛ فمن ناحية حرمان السوق الموازية من كميات كبيرة من النقد الأجنبي، ومن ناحية أخرى تمكين البنوك بالاستفادة من هذه المدخرات وتعزيز الاستقرار النقدي.
وفي جوهرها، تبدو هذه السياسة محاولة جريئة لإعادة توجيه العملة الصعبة من مخازن محتكرة لدى الصرافين إلى قنوات رسمية بيد البنك المركزي، بما يسمح له استعادة موقعه كمصدر رئيسي للعملة الأجنبية وبناء احتياطي يمكن التعويل عليه في تمويل الواردات مستقبلاً.
غير أن نجاحها يبقى مرهوناً بمدى استجابة السوق لهذه الإلزامات، خصوصاً أن المرحلة الراهنة تعتمد بالكامل على السيولة من العملات الصعبة المتوفرة في السوق، لا على تدفقات خارجية جديدة كودائع أو قروض.
تضييق الخناق
في إطار إجراءاته لتعزيز السيطرة على حركة النقد الأجنبي، أصدر البنك المركزي اليمني، الجمعة الماضية، تعميماً يلزم البنوك وشركات ومنشآت الصرافة بالضوابط المعتمدة لتغطية استيراد السلع، وحظر بيع أي مبالغ من النقد الأجنبي لأغراض تجارية خارج تلك الضوابط.
وشمل القرار منع شركات الصرافة من التعامل المباشر مع منشآت الصرافة الفردية، وإلزام الأخيرة ببيع فوائض العملات الأجنبية للبنوك أو الشركات المعتمدة بنهاية كل يوم عمل أو صباح اليوم التالي كحد أقصى.
واعتبر الخبير الاقتصادي وحيد الفودعي، هذا الإجراء امتداداً لجهود اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات ومحاولة لربط سوق الصرف بقنوات منظمة تخدم تمويل التجارة الخارجية، مشيراً إلى أن الإيجابية تكمن في تضييق مسارات المضاربة، خصوصاً تلك التي تنشأ من التعاملات البينية غير المنظمة بين الصرافين، بما يحد نظرياً من تسرب النقد الأجنبي بعيداً عن أغراضه الأساسية.
إلا أن الفودعي حذر من ثغرة جوهرية قد تحد من فعالية القرار، تتمثل في غياب تعريف دقيق لمفهوم "الفائض" من العملات الأجنبية، فالتعميم يفرض تسليم الفائض لكنه لا يوضح ما إذا كان المقصود هو المبالغ الزائدة عن الاحتياجات التشغيلية اليومية، أو عن التزامات العملاء الجارية، أو كامل الرصيد المتبقي بنهاية اليوم. منوهاً في تدوينة له على منصة "إكس" إلى أن هذا الغموض قد يفتح الباب أمام التلاعب، من خلال الادعاء بأن المبالغ المحتفظ بها مخصصة لصفقات أو طلبات قيد التنفيذ.
وشدد على ضرورة أن يكون تحديد الفائض وفق ضوابط كمية ورقابية دقيقة، مثل تحديد سقف للاحتفاظ بالنقد الأجنبي كنسبة من متوسط النشاط، أو فرض تقديم كشوف يومية بالمراكز المفتوحة وربطها إلكترونياً بأنظمة البنك المركزي لقياس الأرصدة آنياً، لأن هذه الممارسات تجعل الرقابة قابلة للقياس والتنفيذ وتحدّ من فرص الالتفاف على القرار.
كما أن نجاح هذه الخطوة لن يتحقق بالنصوص التنظيمية وحدها، فبحسب الخبير الفودعي، يتطلب الأمر رقابة ميدانية وإلكترونية فورية لرصد المخالفات، وتنسيقاً مؤسسياً متماسكاً بين البنك المركزي واللجنة الوطنية والجهات الأمنية، إضافة إلى توفير عرض مستقر وكافٍ من النقد الأجنبي عبر القنوات الرسمية لتلبية الطلب المشروع على الاستيراد، حتى لا تتحول القيود إلى محفز لعودة النشاط إلى سوق موازي. وفق تقديره.
وبدون هذه المقومات، سيتحول التعميم إلى نص إجراء محدود الأثر على أرض الواقع، وربما يدفع جزءاً من النشاط المالي إلى مسارات أكثر سرية، بما يفرغ القرار من أهدافه المعلنة.
إجراءات توازنية
أثارت إجراءات البنك المركزي اليمني الأخيرة موجة ردود فعل في أوساط الشركات التجارية الكبرى، وفي مقدمتها مجموعة هائل سعيد أنعم وشركاه، التي أصدرت بياناً توضيحياً للرد على مطالبات خفض الأسعار عقب تحسن سعر صرف الريال، لتؤكد أن آلية التسعير لديها تعتمد على التكاليف الفعلية للإنتاج والاستيراد.
والمجموعة كغيرها من رواد السوق التجاري في البلاد، أشارت إلى أن غياب سياسات حكومية ضامنة لاستقرار سعر الصرف شكّل أحد أبرز التحديات أمام القطاع الخاص، داعية البنك المركزي إلى توفير العملة الأجنبية بأسعار عادلة لضمان استمرارية النشاط التجاري وتفادي أزمات تموينية.
وحثت المجموعة الجهات الحكومية المعنية إلى تبني إجراءات مرحلية تحمي المستهلك من المضاربات وتساعد على استقرار السوق، مجددة التزامها بالمساهمة في الحفاظ على الأمن الغذائي وتعزيز الاقتصاد المحلي.
وفي تعليق له على منصة "إكس"، اعتبر الصحفي الاقتصادي وفيق صالح أن ضعف الثقة في السياسات الحكومية والمؤسسات المعنية بإدارة السياسة المالية والنقدية ظل لعقود عاملاً مهدداً للاستقرار الاقتصادي وقيمة العملة الوطنية، وهو ما انعكس على تفاقم الأزمات المعيشية.
وأوضح الصحفي صالح، أن البنك المركزي يسعى حالياً لاستعادة هذه الثقة عبر سلسلة إجراءات تستهدف ضبط حركة تدفق الأموال وتنظيم الطلب على النقد الأجنبي، بواسطة تفعيل لجنة الاستيراد من أجل تأمين احتياجات السوق من العملة الصعبة لتمويل الواردات.
ويرى أن قدرة البنك على بناء الثقة وتفعيل أدوات الرقابة تمثل عاملاً حاسماً في تثبيت الاستقرار الاقتصادي، غير أن نجاح هذه الإجراءات يتوقف على تنسيق السياسات مع الحكومة وأجهزة الدولة ومعالجة العجز المالي وترشيد النفقات وتنمية الموارد، بما يحقق التوازن الاقتصادي ويضمن استدامة الإصلاحات النقدية.
تصحيح المسار
أعلنت اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات، نهاية الأسبوع الماضي، بدء تنفيذ آلية ملزمة لحصر تمويل استيراد 25 سلعة أساسية واستراتيجية عبر البنوك فقط، في خطوة تهدف إلى وقف استخدام القنوات غير الرسمية للمصارفة والتحويل، وحماية الاستقرار النقدي.
وتشمل الآلية اشتراط تقديم وثائق وفواتير حديثة وسجلات تجارية سارية، مع إلزام التجار الذين يمتلكون أرصدة بالعملة الأجنبية بتوريدها للبنوك خلال عشرة أيام، وأكدت اللجنة عدم السماح بدخول أي بضائع عبر المنافذ الجمركية إلا بموجب هذه الآلية، داعية القطاع الخاص للالتزام الصارم بها.
وتزامنا مع إعلان هذه الآلية، صعّد البنك المركزي إجراءاته الرقابية بإغلاق وسحب تراخيص عدد من شركات وفروع الصرافة المخالفة، وحدد سقف الحوالات وبيع العملة الأجنبية للأغراض الشخصية عند 5 آلاف دولار ليعود لاحقاً تقليصها إلى ألفين دولار فقط، ضمن مساعٍ أوسع للحد من المضاربات ودعم استقرار العملة.
في السياق، وصف رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، هذه الإجراءات الاقتصادية التي أحدثت تحسنا في سعر صرف العملة الوطنية بأنها "خطوة أولى" تتطلب جهودًا مكثفة من الحكومة والبنك المركزي للحفاظ عليها والسير نحو تعزيز الإصلاحات الاقتصادية.
وبدوره، شدد رئيس مجلس الوزراء سالم بن بريك على ضرورة انعكاس تحسن سعر الصرف على أسعار السلع والخدمات، مع تكثيف الرقابة على الأسواق لمكافحة الاحتكار والمضاربة، مؤكدًا أهمية مواجهة الحرب الاقتصادية التي تشنها جماعة الحوثي ضد الاقتصاد الوطني.
تابع المجهر نت على X