تُمثل العملية الأمنية التي استهدفت مؤخرًا شبكات تهريب الأسلحة الإيرانية إلى جماعة الحوثي الإرهابية، إحدى ثمار التطور الملحوظ في التنسيق الاستخباراتي بين الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا وشركاء إقليميين ودوليين.
كما تُعد اختبارا حقيقيا لقدرة قيادة الشرعية ومكوناتها على تحويل النجاح العسكري والأمني ضد الحوثيين إلى خطط استراتيجية طويلة المدى، بما يسهم في إعادة ضبط ميزان القوى في اليمن والمنطقة.
ففي ظل استمرار طهران في توظيف أذرعها المسلحة كأدوات ضغط إقليمية كما هو الحال مع الحوثيين في اليمن، تكشف الشحنات المضبوطة التي شملت أسلحة نوعية ومعدات متقدمة، سعي إيران لإعادة ترميم القدرات العسكرية والقتالية للحوثيين، عقب استهدافها من قبل الطيران الأمريكي والإسرائيلي.
كما أن حجم المضبوطات بحسب مراقبين، يُعد مؤشرًا على تصعيد تتهيأ من خلاله جماعة الحوثي لمرحلة جديدة من العمليات العسكرية خاصة في البحر الأحمر والممرات الدولية، وهذا بالضرورة يتطلب تحالفًا دوليًا فاعلاً يدمج بين الردع الجوي والبحري، والتضييق على الدعم المالي، وتشديد الرقابة التقنية.
فالتراخي في مواجهة التهديد الإيراني سينعكس تأثيره على الأمن الإقليمي والدولي قبل التأثير على الداخل اليمني، وتدرك الولايات المتحدة وحلفاؤها اليوم أنه لا بد من الحيلولة دون استمرار تحويل الممرات البحرية الحساسة إلى ورقة بيد وكلاء طهران.
إشادة أمريكية
في عملية وُصفت بأنها أكبر عملية ضبط يتم الكشف عنها في اليمن، اعترضت قوات المقاومة الوطنية بقيادة العميد طارق صالح، جنوب غرب اليمن، شحنة أسلحة ضخمة كانت في طريقها إلى الحوثيين عبر البحر الأحمر.
الشحنة التي قُدّرت بنحو 750 طنًا، تضمنت منظومات صاروخية بحرية وجوية، دفاعات جوية، طائرات مسيّرة، صواريخ مضادة للدروع، قناصات، مدافع ثقيلة، وأجهزة رصد وتنصت.
ووفقًا لمصادر أمنية مطلعة، فإن السفينة المضبوطة مصدرها عُمان ، وتحركت من الموانئ الخاضعة لسيطرة الحوثيين بطاقم محلي تابع للجماعة.
كما ذكرت منصة "يوب يوب" المتخصصة في تدقيق المعلومات تفاصيل تتعلّق بمسار السفينة المستخدمة في عملية التهريب، مبينة أنها تحمل رمز نداء بحري يبدأ بالرقم (461)، واستخدمت سابقاً في أنشطة صيد تحت اسم "الزئبق" (HG) خلال عام 2024.
وبحسب بيانات مستخلصة من منصات تعقّب السفن الدولية مثل VesselFinder وMarineTraffic، فإن السفينة رست في ميناء بندر عباس الإيراني بتاريخ 23 أبريل 2025، ثم اختفى إشعارها الملاحي في المياه العُمانية اليوم التالي، قبل أن تعاود الظهور في ميناء جيبوتي بين 19 و20 مايو، حيث يُرجّح أنها حصلت على وثائق مزوّرة وشحنة تمويهية.
وتظهر وثيقة "مانيفيست خروج" صادرة عن ميناء جيبوتي بتاريخ 25 يونيو، أن السفينة كانت متجهة إلى ميناء الصليف الخاضع لسيطرة الحوثيين، وترفع العلم اليمني بقيادة الربان "أمير أحمد يحيى".
وقد أكدت القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم) أن العملية استندت إلى معلومات استخباراتية دقيقة، واعتبرها الجنرال "مايكل كوريلا" ضربة نوعية تدل على استمرار إيران في تسليح الحوثيين وتغذية الصراع في المنطقة، مشيرا إلى أن العملية كشفت أساليب تمويه متطورة تُستخدم لتغطية هوية السفن المهربة، وتضليل أنظمة المراقبة الدولية.
وفي الجهة المقابلة شرقًا، كانت وزارة الداخلية في الحكومة الشرعية قد اعلنت عن قيام السلطات الأمنية في المهرة بضبط شحنة من الأجهزة والمعدات العسكرية مخبأة داخل مكتب سفريات بمديرية شحن.
وشملت الشحنة أجهزة إلكترونية، قضبان معدنية، وأسلاك توصيل، بينما قالت إن التحقيقات لا تزال جارية، كما ضبطت نقطة "المصنع" التابعة للواء الضبة العسكري في حضرموت، سيارة محملة بأسلحة وذخائر وأجهزة اتصال لاسلكي.
تطور أمني
مع تكرار الكشف عن شحنات ضخمة من الأسلحة الإيرانية المتجهة إلى جماعة الحوثي، يبرز تساؤل جوهري حول ما إذا كانت عمليات التهريب قد تصاعدت فعلاً، أم أن التحول الحقيقي يكمن في تحسن القدرات الاستخباراتية للقوات اليمنية بدعم من حلفائها.
ويرى الباحث والمحلل العسكري والاستراتيجي د. علي الذهب، أن العمليات المتكررة لضبط التهريب لا تُعبّر عن زيادة الكمية بقدر ما تعكس تطوراً نوعياً في الرصد والاعتراض.
وأرجع الذهب أسباب التحسن اللافت في كفاءة العمليات الأمنية والاستخباراتية لعدة عوامل، أبرزها "تراجع قدرة الحوثيين على استخدام موانئهم الحيوية نتيجة الضربات الأخيرة، ما قلّص هامش المناورة أمامهم وأجبرهم على سلوك مسارات أكثر بدائية وأقل أماناً".
كما ساهم تصاعد التنسيق الاستخباري بين الحكومة اليمنية والتحالف العربي وشركاء دوليين خصوصًا الولايات المتحدة، في توفير معلومات مسبقة مكّنت من تنفيذ عمليات نوعية. وفقًا للذهب.
وفي حديثه لـ "المجهر"، يشير الذهب إلى أن انشغال إيران داخلياً نتيجة للضغوط السياسية والضربات الإسرائيلية والغربية أضعف التواصل الفوري والدعم المباشر لحلفائها، في وقت شهدت فيه الأجهزة الأمنية اليمنية لا سيما التابعة للمقاومة الوطنية، تطورًا واضحًا في أدواتها وتحليلها الشبكي، وهو ما عزز قدرتها على تفكيك مسارات التهريب ومتابعة خيوطها العابرة للحدود.
وفيما يتعلق بقدرات الحوثيين في البحر الأحمر، يبين أن "الخطر يتعلق بغياب أو تراجع الردع الدولي أكثر من علاقته بنوع الأسلحة المهربة، مثل الصواريخ البحرية والزوارق المسيّرة".
ويؤكد الذهب في ختام حديثه، أن عدم أداء التحالفات البحرية مثل "سبيديس" و"تحالف الازدهار" و"القوة 154" لدورها بشكل نشط، يفسح المجال أمام الحوثيين لتكثيف هجماتهم ويزيد من جرأتهم في استهداف الممرات الحيوية للتجارة العالمية.
رسالة استراتيجية
إن استئناف الحوثيين لهجماتهم على السفن التجارية يعكس بوضوح الحاجة إلى تعزيز التنسيق الاستخباراتي بين القوى المناهضة لهم، سواء محليًا أو إقليميًا وربما أيضًا مع قوى غربية محتملة.
ويعتقد الباحث في علم الاجتماع السياسي د. عبد الكريم غانم، أن "إيران تتعامل مع شحنات السلاح المهرّبة باعتبارها رسائل استراتيجية موجهة لخصومها"، مفادها أن ترسانتها العسكرية لم تنفذ رغم الضربات، وأنها تملك أدوات ردع بديلة عن السلاح النووي ممثلة بأذرعها المسلحة المنتشرة في عدد من دول المنطقة.
ويضيف غانم في حديثه لـ"المجهر" أن هذه الشحنات هي محاولة لتعويض ما خسرته جماعة الحوثي في جبهات القتال واستعادة زمام المبادرة العسكرية، مؤكداً أن الحوثيين ككيان مسلح لن يخرجوا من دائرة الصراع بسهولة وإنما سيواصلون التصعيد متى توفرت لهم الإمكانات.
وحذر من أن امتلاك الحوثيين لمنظومات صاروخية متقدمة ودفاعات جوية عالية التقنية قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التوترات، تبدأ بتصاعد التهديدات على الملاحة الدولية مروراً بارتفاع الخسائر الاقتصادية.
ويؤكد غانم أن وصول مزيد من الأسلحة الإيرانية للحوثيين هو "بمثابة استدعاء جديد للضربات العسكرية الإسرائيلية التي دمرت البنية التحتية اليمنية" في مناطق سيطرتهم، دون أن تطال فعليًا اسرائيل التي يدَّعي الحوثيون محاربتها.
ويرى مراقبون أن عمليات تهريب الأسلحة الإيرانية للحوثيين يضع الحكومة الشرعية أمام ساحة اختبار مفتوحة، بما يبقي ميزان القوة مرهوناً بمن ينتصر في عملية الرصد للمعلومات وعمليات الاختراق والتتبع قبل حسم المعارك على الأرض.
نقطة تحول
تمثل العملية الأخيرة التي أفضت إلى إحباط تهريب شحنة أسلحة إيرانية ضخمة كانت في طريقها إلى الحوثيين، نقطة تحول لافتة في مسار المواجهة الاستخباراتية والعسكرية ضد خطوط إمداد الجماعة.
وبحسب الباحث السياسي والصحفي ياسين التميمي، فإن هذه العملية تحمل دلالات استراتيجية أبرزها أن الحصار على خطوط الإمداد الحوثية بات أكثر إحكامًا، مشيرا إلى أن ثمة توجه أمريكي واضح لتجفيف منابع دعم الجماعة خصوصًا عبر البحر، وهو ما يدل على تسهيلات تقنية ودعم لوجستي ساعد على تنفيذ هذه المهمة النوعية.
وفي تدوينة له على منصة "إكس" يشير التميمي إلى أن السيطرة على الشحنة سيمكّن من الوصول إلى معلومات ثمينة حول شبكة التهريب، وكشف تورط كيانات وأفراد في تسهيل عمليات النقل والتمويل، ما قد يغيّر قواعد اللعبة ويحدّ من قدرة الحوثيين على تعويض خسائرهم.
ورغم احتمالية أن تؤدي هذه التحركات إلى تصعيد ميداني، يؤكد التميمي أن مثل هذه العمليات ضرورية لإنهاك الجماعة وتضييق الخناق عليها، حتى وإن ترتبت عليها تكاليف أمنية مرتفعة، قائلاً إن "المرحلة المقبلة تتطلب استعداداً أكبر لمواجهة ردود الفعل الحوثية".
فحجم الشحنات مع تكثيف عملية التهريب عبر أكثر من وجهة، يشير إلى مستوى متقدم من الدعم الإيراني للحوثيين يتجاوز الأسلحة الخفيفة إلى قدرات عسكرية تعزز تهديدهم لخط الملاحة الدولي والأمن الإقليمي.
تفكيك الشبكة
يعتقد الكاتب والصحفي اليمني همدان العليي، أن ضبط شحنة أسلحة بهذا الحجم والتنوع، يشير بوضوح إلى نية الحوثيين الدخول في مرحلة تصعيد جديدة أو حرب استنزاف طويلة الأمد.
ويؤكد العليي في تدوينة على منصة "إكس" أن هذه العملية تُسقط مجددًا الادعاءات المتكررة عن "انكفاء" إيران أو تراجع دورها في دعم الجماعة، موضحًا أن طهران لا تلتزم فعليًا بأي تهدئة.
ويضيف أن إيران تسارع إلى تكثيف دعمها العسكري كلما اشتدت عليها الضغوط الدولية، لافتًا إلى أن استمرار هذا النوع من الدعم يؤكد أن الحوثيين ليسوا سوى أداة لإيران في معركة إقليمية تتجاوز حدود اليمن.
كما يشير إلى أن احباط عملية التهريب يفضح مزاعم الحوثيين حول امتلاكهم قدرات تصنيع عسكري ذاتي لتبرير ممارسات الهيمنة والجباية، بينما الواقع يُظهر اعتمادهم الكامل على السلاح الإيراني، معتبرًا أن الاختراق الاستخباراتي الذي مكّن من ضبط الشحنة، دليل على تفكك بعض حلقات الشبكة التي يديرها النظام الإيراني في تهريب السلاح.
ولم يخفِ العليي تشاؤمه من استمرار الاكتفاء الدولي بالإدانات اللفظية، داعيًا إلى خطوات عملية ومباشرة لمساعدة اليمنيين في استعادة مؤسسات الدولة وإنهاء حالة الفوضى التي تُدار من خلال جماعة الحوثي، حيث يرى أنها لم تعد تهدد الداخل اليمني فحسب بل تهدد السلم الإقليمي والدولي برمّته.
ختامًا، مع ما أظهرته العمليات الأخيرة من تطور أمني واستخباراتي ملحوظ، يظل السؤال مطروحا حول ما إذا كانت تمثل نقطة تحول حقيقية في مسار الحرب الاستراتيجية للحد من تهريب السلاح للحوثيين، أم أنها مجرد حلقة أخرى في صراع طويل تتداخل فيه الأبعاد المحلية مع الأجندات الإقليمية والدولية؟
والمؤكد حتى الآن، أن المعركة تجاوزت الحدود الداخلية على الأرض وباتت تدور على مشارف المياه الإقليمية، حيث تقاطعت فيها شبكات التمويل والتهريب مع مصالح الأمن الإقليمي والدولي في حالة من التنافس الجيوسياسي، وهو ما يرسم ملامح صراع أكبر على أطراف بلد لا يزال يدفع ثمنًا باهظا للحرب القائمة منذ أكثر من عشر سنوات.
تابع المجهر نت على X