تدخل أمني لاحتواء عطش تعز.. خطوة إنقاذية أم مسكّن مرحلي؟ (تقرير خاص)

تدخل أمني لاحتواء عطش تعز.. خطوة إنقاذية أم مسكّن مرحلي؟ (تقرير خاص)

في وقتٍ بلغت أزمة المياه ذروتها داخل مدينة تعز، أطلقت إدارة عام الشرطة حزمة من الإجراءات الميدانية لضبط توزيع وبيع المياه الصالحة للشرب، وضمان وصولها للمواطنين بالتسعيرة الرسمية، في خطوة وُصفت بأنها تدخل أمني مباشر في ملف خدمي غارق منذ سنوات في العشوائية والتلاعب بحسب كثيرين.

فمنذ مساء الثلاثاء الفائت، بدأت قوات الأمن حملة رقابية ميدانية بتوجيهات من مدير عام شرطة تعز، العميد منصور الأكحلي، شملت محطات تحلية المياه والمحلات التجارية، بالتنسيق مع مؤسسة المياه ومكتب الصناعة والتجارة، وقد رافقت الأطقم الأمنية ناقلات المياه منذ خروجها من مؤسسة المياه وحتى وصولها إلى المحطات، في محاولة لفرض التسعيرة الرسمية على مختلف مراحل التوزيع، وصولًا إلى المستهلك النهائي.

وعن التسعيرة التي حددتها الشرطة، تشمل سعر صهريج المياه سعة 70 ألف لتر عند بيعه من مؤسسة المياه إلى محطات التحلية بمبلغ 35 ألف ريال، أما سعر الجالون سعة 20 لترًا، فقد حُدد بمبلغ 220 ريالًا عند بيعها من محطات التحلية إلى المحلات التجارية، فيما لا يجوز أن يتجاوز سعر بيعها للمستهلك النهائي 300 ريال.

وشددت الشرطة على أن هذه التسعيرة ملزمة، وأي مخالفة لها ستُواجه بإجراءات صارمة، في إطار حملة رقابية تهدف إلى كبح جماح الأسعار والحد من الاستغلال، ودعت المواطنين إلى الإبلاغ عن المخالفين عبر رقم طوارئ مخصص، تأكيدًا على ملاحقة المحتكرين أو المتلاعبين بالسوق.

وتأتي هذه التحركات الأمنية في لحظة حرجة تشهد فيها المدينة انفجارًا غير مسبوق في أسعار المياه، وغيابًا شبه تام للرقابة على محطات التحلية وناقلات التوزيع، وسط استياء شعبي واسع من تفاقم الأزمة وعجز الجهات المعنية عن إيجاد حلول فعالة.

 

إجراءات لا تكفي

 

وبين الارتفاع الجنوني لأسعار المياه، إذ وصل سعر الجالون سعة 20 لترًا إلى أكثر من 1500 ريال يمني، ناهيك عن انعدام تواجده في بعض الأحياء، وعجز مئات المواطنين عن شراء المياه، بدت الحاجة إلى تدخل عاجل أمرًا لا مفر منه.. ومع ذلك، يظل السؤال مطروحًا في أذهان كثيرين هل بمقدور الشرطة وحدها إعادة الانضباط إلى سوق مضطرب؟ وهل يعكس هذا التدخل تحوّلًا جادًا في إدارة الملف، أم أنه مجرد استجابة طارئة سرعان ما تتبخر تحت وطأة واقع الأزمات وتعقيدات المشهد في تعز؟.

في هذا التقرير، نحاول مقاربة الإجابة عبر استعراض ردود الفعل الشعبية، ورصد شهادات المواطنين، واستطلاع الوضع العام ونتائج هذه الخطوات، وما إذا كانت قد أثمرت على أرض الواقع، كما نسلّط الضوء على موقف مالكي محطات التحلية في المدينة، ومدى تجاوبهم مع الإجراءات الأمنية، والتحديات التشغيلية التي يواجهونها في ظل بيئة خدمية متدهورة ومحاصرة.

في استطلاع لموقع "المجهر"، تباينت آراء المواطنين بشأن جدوى التدخل الأمني في أزمة مياه الشرب، بين من يرى فيه خطوة إيجابية تمكّنت من كبح جماح الأسعار مؤقتًا، وبين من يراه حلاً ترقيعيًا لا يعالج جوهر المشكلة المتمثلة في شح الموارد، وتدهور البنية التحتية، وغياب المعالجات الاستراتيجية.

يقول مختار عبدالله، أحد سكان حي التحرير الأسفل: "من الجيد أن شرطة تعز نزلت للسوق وفرضت رقابة على أسعار مياه الشرب، لكن هذا لا يشكل حلًا للمشكلة الأساسية وهي انقطاع المياه.. نحن نبحث عن الماء أولاً قبل أن نسأل عن السعر، وكثير من الأحياء لا يصلها الماء أصلًا حتى يستطيع المواطن شراءه".

فيما يرى هشام القدسي، وهو موظف حكومي إن التحرك الأمني ضرورة مؤقتة، بسبب غياب الرقابة وترك المجال للمضاربة بأسعار مياه الشرب وكذلك المياه المنزلية، مؤكدًا أنه كان لابد من تدخل الجهات الأمنية لضبط المتلاعبين بالسوق.. "نتمنى أن تستمر هذه الجهود والاجراءات المعلنة، وأن تواصل مؤسسة المياه إمداد محطات التحلية بالمياه الكافية بشكل يومي، ما لم فإن تعز ستبقى عرضة للعطش والضحية هو المواطن".

ففي حين عبّر بعض الأهالي عن ارتياحهم لانخفاض أسعار الدبّة وتوفّر المياه في بعض الأحياء، يشير آخرون إلى أن المشكلة ما زالت قائمة في بعض الأحياء.. تتحدث أم ياسر لـ "المجهر": "في حي الروضة ما زال سعر الدبة الماء سعة 20 لترًا يصل إلى 1000 ريال، ويزيد سعرها في بعض البقالات.. كل تاجر يبيع بسعر مختلف".

وبحسب هذه الأم فإن العديد من التجار يبرّرون عدم التزامهم بالتسعيرة الرسمية بحجة أن محطات التحلية لم تبدأ بتوزيع المياه حتى الآن، وأن الكميات المتوفرة لديهم تم شراؤها مسبقًا بأسعار مرتفعة، الأمر الذي يدفعهم للبيع بأسعار أعلى لتعويض الكلفة، في ظل غياب رقابة حقيقية على الأسواق.. هذا الواقع يكشف محدودية الأثر الفعلي للإجراءات ويطلب تدخلًا أوسع يشمل توفير المياه وضمان استقرار الإمدادات، إلى جانب تنسيق مؤسسي فاعل يعالج جذور الأزمة لا مظاهرها فقط.

 

تكاليف التشغيل

 

يرى مالكو محطات التحلية في مدينة تعز أن قرار سلطات تعز لا يراعي تعقيدات الوضع التشغيلي، مؤكدين أنهم يعانون من ارتفاع تكاليف التشغيل، وشح المياه، وغياب الكهرباء، وهو ما يجعل الالتزام بالتسعيرة الرسمية أمرًا بالغ الصعوبة دون وجود دعم حكومي أو حلول بديلة.

ويشير بعضهم إلى أن تشغيل محطات تحلية المياه يعتمد بشكل أساسي على شراء الوقود بأسعار مرتفعة لتشغيل المولدات، إلى جانب كُلفة النقل وصيانة المعدات، وكلها عوامل ترفع من سعر المياه قبل أن تصل إلى المستهلك.

فيما يعتقد أنس الوجيه، مدير محطة تحلية في مدينة تعز، أن الاجراءات الأخيرة قد توفر بيئة تشغيلية مستقرة لهم، لا سيما أنها تسهل حصولهم على المياه، ويؤكد أن توفير مياه الشرب لسكان المدينة المحاصرة مرهون باستمرار التزويد من مؤسسة المياه بشكل منتظم.

وفي السياق، توقّع مراقبون أن التدخّل الأمني في أزمة مياه الشرب قد ينجح في ضبط الأسعار لفترة محدودة، نظرًا لأن هذه الإجراءات تعد بمثابة احتواء الأزمة دون معالجة جذورها، مشيرين إلى أن استمرار هذا النهج سيعزز عقلية تجاوز الأزمات بدلًا من التخطيط لتفاديها، ويكرّس الاعتماد على الحلول المؤقتة على حساب بناء منظومة خدمية مستقرة ومستدامة.

هكذا ساهم التدخل الأمني في الحدّ من بعض مظاهر الفوضى واحتكار مياه الشرب داخل مدينة تعز، إلا أنه يظل إجراءً إسعافيًا في قلب أزمة متشابكة تتجاوز حدود التسعيرة والرقابة المؤقتة، وسط تساؤلات المواطنين هل تحمل الأيام القادمة تحسنًا ملموسًا في وفرة المياه؟ أم أن الأزمة مرشّحة للانفجار مجددًا؟.

 

اجتماع طارئ

 

عقدت إدارة مؤسسة المياه والصرف الصحي بتعز، الأربعاء، اجتماعًا طارئًا برئاسة المحافظ نبيل شمسان، لمناقشة الحلول العاجلة لأزمة المياه والإجراءات الطارئة الواجب اتخاذها لتخفيف معاناة المواطنين، في ظل تفاقم الأزمة وتزايد الطلب على المياه خلال الأسابيع الماضية.

وناقش الاجتماع تقارير حديثة عن مستجدات الأزمة وأسبابها الفنية والإدارية، وخرج بجملة من التدابير الهادفة إلى التخفيف من حدتها وضمان وصول المياه إلى المواطنين بأسعار معقولة.

وأشار وكيل المحافظة رشاد الأكحلي إلى جملة من الإجراءات الطارئة التي تم اتخاذها، أبرزها تزويد محطات التحلية بـ500 ألف لتر من الوقود، وتخصيص عدد من الآبار لتغذية تلك المحطات، إلى جانب متابعة توزيع المياه عبر نقاط البيع (البقالات) بضمانات رسمية والتزامات صارمة، مع مرافقة أمنية لضمان عدم التلاعب أو استغلال الأزمة عبر افتعال انقطاعات أو احتكار المياه.

من جهته، أكد المحافظ نبيل شمسان على ضرورة تضافر جهود كافة الجهات الرسمية والأمنية والمجتمعية ضمن منظومة موحدة لإدارة الأزمة، مشددًا على اتخاذ إجراءات صارمة بحق كل من يتلاعب بأسعار المياه، سواء من مالكي الآبار أو محطات التحلية أو ناقلي المياه (الوايتات).

ووجّه المحافظ مدراء مديريات القاهرة، والمظفر، وصالة، بتسخير كل الإمكانات المالية والرقابية المتاحة، وتنفيذ حملات ميدانية فاعلة بمشاركة عقال الحارات والأجهزة الأمنية لضبط أي تجاوزات، ومراقبة توزيع المياه، بما يضمن إنصاف المواطنين وإعادة الأوضاع إلى طبيعتها.

وشدد شمسان على أهمية استثمار جميع الموارد المائية المتاحة، وتسريع إدخال آبار جديدة للخدمة، من ضمنها بئر المدينة السكنية، واستكمال أعمال توصيل خط إمداد آبار الضباب، مع تخصيص أربع آبار لتوفير مياه الشرب، ومراقبة وصولها للمواطنين بالأسعار المعتمدة.

وقدّم مدير مؤسسة المياه المهندس وثيق الأغبري، ومدير مكتب الصناعة والتجارة عبد الرحمن القليعة، وممثل إدارة الشرطة النقيب أسامة الشرعبي، استعراضًا للإجراءات المشتركة المتخذة لتخصيص الآبار لمحطات التحلية، وتنظيم عملية توزيع المياه وضبط أسعارها، مؤكدين المضي في تنفيذ سلسلة من الإجراءات والمعالجات العاجلة.

وفي سياق متصل، بحث محافظ تعز مع وفد منظمة اليونيسف، برئاسة فريق مشاريع المياه والصرف الصحي، الجوانب الفنية والتنفيذية المتعلقة باتفاقية تشغيل وضخ المياه من حقول الحوبان إلى خزانات المؤسسة المحلية داخل المدينة.

وأكد وفد اليونيسف التزامهم بمواصلة التنسيق مع الممثل المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، لبدء ضخ المياه من الحقول المشمولة في الاتفاقية كمرحلة أولى، إلى جانب دعم مشاريع الصيانة والتأهيل لبقية الآبار، وربطها بالشبكة العامة، بالإضافة إلى دعم إصلاح شبكة المياه الحضرية وتنفيذ مشاريع للصرف الصحي في عدد من أحياء المدينة الأكثر تضررًا.

 

استمرار الأزمة 

 

رغم الإجراءات الطارئة التي أُعلن عنها خلال اجتماع لجنة إدارة أزمة المياه، لا تزال مؤشرات الانفراج بعيدة، حيث تشهد مدينة تعز، حتى اليوم، ازدحامًا كثيفًا وطوابير طويلة أمام محطات التحلية، وسط شكاوى متزايدة من استمرار الأزمة وارتفاع أسعار مياه الشرب بشكل غير مسبوق.

وتفيد بلاغات ميدانية بأن سعر الوايت سعة 3000 لتر بلغ 85 ألف ريال في بعض المحطات، منها "نهر الخلود" و"الملكة"، وهو ما يتجاوز التسعيرة الرسمية التي أقرتها لجنة الطوارئ، كما أن المحلات التجارية التي يُفترض أن توزع المياه بأسعار موحدة، لم تلتزم بالتسعيرة المحددة.

وأكدت مصادر محلية أن الأجهزة الأمنية لا تزال عاجزة عن ضبط المخالفات الواسعة، سواء من قبل محطات التحلية أو من قبل نقاط البيع بالتجزئة، رغم توجيهات المحافظ بفرض الرقابة الصارمة واتخاذ إجراءات ضد المتلاعبين.

وفي تطور لافت، تفيد مصادر في شرطة تعز بأن الأجهزة الأمنية ألقت القبض على صاحب محطة "الروضة" لتحلية المياه، عقب امتناعه عن بيع المياه للبقالات، رغم حصوله على كميات مخصصة من المياه الخام بهدف التحلية والتوزيع، في مخالفة صريحة للإجراءات المتفق عليها.

هذا الوضع يعكس حجم التحديات التي تواجهها السلطات المحلية في تطبيق خطة الطوارئ، ويضع مزيدًا من الضغط على الجهات المعنية لتكثيف الرقابة وتفعيل أدوات الردع لضمان التزام جميع الأطراف بالتسعيرة الرسمية، وتفادي مزيد من الاحتقان الشعبي في مدينة تعاني أصلًا من ضغوط إنسانية متراكمة.

وفي سياق متابعة الأزمة ومحاولة الحصول على توضيحات رسمية بشأن دور الأجهزة الأمنية في ضبط المخالفات المرتبطة بتسعيرة المياه، تواصلنا مع مدير دائرة الإعلام والتوجيه المعنوي والعلاقات العامة في شرطة تعز، المقدم أسامة الشرعبي، لكنه امتنع عن الإدلاء بأي تصريح، دون توضيح الأسباب.