إعلام الساحل وتجنيد الدعاية لتقويض مؤسسات تعز (تحليل خاص)

إعلام الساحل وتجنيد الدعاية لتقويض مؤسسات تعز (تحليل خاص)

مع تحول الفضاء الإلكتروني إلى الوسيلة الأكثر انتشارا لتصبح محل اهتمام رسمي وشعبي في تناول القضايا الشائكة على الواقع، هناك من يعتمد عليه كميدان لإدارة معركة موازية من خلال الحملات الإعلامية التي تُنسج فيها الروايات والاتهامات لخداع الجماهير والغرض منه استهداف إرادتها وحَرف موقفها في ظروف ومتغيرات معينة.
  
في اليمن ومع زيادة تعقيد المشهد سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، وجدت مدينة تعز نفسها أمام هذا النوع من المعارك، حيث تُشنّ عليها حملة إعلامية منظمة، يقودها جناح محسوب على قيادة الساحل الغربي بزعامة طارق صالح، لمحاولة النيل من ثقة المجتمع المحلي بمؤسسات الدولة في المدينة التي صمدت عقداً كاملاً في وجه الحوثي.

وهذا الانجرار وراء الهجوم الخطابي ليس بمحض الصدفة ولا يمكن قراءته كحراك نقدي في الحالات الطبيعية، فالمتابع لتسلسل الأحداث الأمنية والعسكرية وتناسقها مع الخطاب يدرك أنه أمام عمل ممنهج يُدار بخيوطٍ خفية، ويخدم أهدافاً تتجاوز حدود النقاش السياسي إلى مسارات أكثر خطورة تتعلق بمستقبل تعز ووحدتها الاجتماعية والسياسية.

 

من يهاجم تعز؟

 

منذ أشهر، تتزايد الحملات الإعلامية ضد تعز وخلف هذا الضجيج المتصاعد تبرز مجموعة من الأسماء المعروفة بتبعيتها أو قربها من محور الساحل الغربي، يقودها إعلاميون وناشطون يقدمون أنفسهم كـ"صوت الحقيقة"، بينما خطابهم التحريضي يصب في اتجاه شيطنة تعز ومؤسساتها.

لكن الغريب أن يقف في مقدمة هذا الانحراف اللامسؤول المحافظ الأسبق لتعز حمود خالد الصوفي، كأحد أبرز الوجوه التي تحولت إلى موقع التجييش الإعلامي، فهذه الشخصية الذي حملت يوماً صفة المحافظ، كان يُنتظر منه أن يكون على قدر من المسؤولية ويقدّم رؤية وطنية متزنة تسهم في ترميم مؤسسات الدولة.

لكنه اختار طريقاً آخر وبات يُطلّ عبر منشورات يومية ومتتابعة في صفحته على منصة فيسبوك رغم أنه لم يسجل موقفاً منذ انقلاب الحوثيين على مؤسسات الدولة في صنعاء، هذا الانقلاب الذي جاء بعد أيام من تعيينه رئيساً لجهاز الأمن السياسي ثم بعد فترة وجيزة قرر مغادرة صنعاء دون موقف واضح بحكم منصبه، متجهاً إلى إحدى الدول الأوروبية مع أن عدن كانت أقرب لو أراد.

يعودُ حمود خالد اليوم حاملاً لتعز خطاب الساحل الغربي من خارج اليمن، ليقول للمواطن الذي يتجول يومياً في شارع جمال وسط المدينة، إن هذا الشارع غارقٌ في الفوضى، ولا يمكن فهم ذلك إلا بحقيقة واحدة، وهي أن الانحدار من المستوى الاعتباري إلى مجرد دور رقمي "مُفسبك" يكشف حالة الارتباك التي أصابت بعض النخب السابقة، حين اختارت التماهي مع خطاب مدفوع على حساب المدينة التي أوجدت لهم مساحة من النفوذ يوماً ما.

 

منظومة إعلامية

 

يتحدث حمود خالد الصوفي كما لو أنه صاحب مشروع، بينما كل ما يملكه هو منشورات فيسبوكية متكررة تحاول صناعة هالة حوله أكبر من حجمه الفعلي، معتمداَ على "الفهلوة" الإعلامية والتقاط اللحظات السياسية ليركب الموجة، دون أن يقدم حلولاً ملموسة.

خلال عملية الفرز التي قام بها فريق "المجهر" اتضح أن المسافة تقلّصت بين خطاب حمود خالد الصوفي وغيره من الأصوات التي تتماهى مع خطاب طارق صالح في مواقع التواصل، حتى باتت منشوراته أقرب إلى محطة لنقل رسائل الغرف الإعلامية في المخا، لا إلى مواقف رجل دولة يفترض أن يقرأ المشهد الوطني بعين مسؤولة.

وبذلك تحوّل موقعه الرمزي افتراضاً من شخصية اعتبارية إلى مجرد صوت دعائي يُستخدم لتمرير هذه الرسائل التي لم يتمكن طارق صالح نفسه على الإدلاء بها علناً.

واللافت أن هذا التحول لا يقتصر على شخصية واحدة، فهو جزء من منظومة متكاملة تُدار بعناية، والتقاطع الواضح بين منشورات الصوفي وكذلك المحافظ السابق لتعز أمين محمود، وبين تعليقات الصحفي نبيل الصوفي وطلعات البث المباشر للصحفي نايف حسان وكذلك أحاديث علي البخيتي، وهو ما يشير إلى شبكة متناسقة الأهداف وبنغمة موحّدة، تستهدف القضايا نفسها في التوقيت نفسه.

لا يبدو الأمر كحركة نقد عفوية، وإنما كحملة مخططة تُبنى على توزيعٍ دقيق للأدوار، بحيث يظهر كلٌّ منهم بوجهٍ مختلف؛ أحدهم يتقمّص دور ناصح غيور، وآخر يتخذ هيئة محلل محايد وكاتب موضعي، وثالث يعلق كل مشاكل تعز على شماعة الإصلاح، وكلهم يجتمعون عند الهدف ذاته، وهو ضرب السلطة في تعز وتشويه صورتها لدى الرأي العام.

فعندما تبدأ تفحص محتوى هذه الحملة، تدرك أنها تقوم على صياغة متكررة ومتقنة للهجوم الإعلامي، بهدف إعادة إنتاج الصورة السلبية حتى تُصبح في وعي المتلقي أقرب إلى حقيقةٍ ثابتة، ومن ذلك الادعاء بغياب الدولة وهيمنة فصيل على آخر لمحاولة تشكيل انطباع زائف بأن تلك المشكلات أصل الأزمة.

بينما يتم في هذا الخطاب تغييب الصورة الأوسع لوضع تعز؛ وهي حصار الحوثيين للمدنية، ودفع بعض القوى الإقليمية لتعزيز حالة الانفصال الإداري المفروض في مديريات الساحل التي يحتكرها طارق صالح عضو مجلس القيادة الرئاسي وكذلك منطقة الحوبان بفعل الحصار الحوثي، وأيضا ضعف الدعم الحكومي، وكلها عوامل تشكل الأساس الحقيقي لمعاناة تعز.

وما يجري من هجوم إعلامي اليوم ضد تعز هو عملية إزاحة متعمدة لأساس الأزمة، بحيث يتحول الجاني إلى هامش ويُقدَّم الضحية على أنه السبب، في محاولة لتشويش القدرة على التمييز بين الحقيقة والدعاية.

 

بين النقد والبروباغندا

 

ليس من الخطأ نقد السلطة في تعز، فالنقد جزء من العمل السياسي، لكنه يصبح سلاحاً مُغرضاً حين يتحول إلى حملة متواصلة تستهدف إضعاف كل ما هو قائم، دون أن تقدم حلاً سوى مبدأ الفوضى.

فالخطاب الذي يروّج له بعض الإعلاميين لا يبحث عن تصحيح المسار، ولكنه يعمل على نسف المسار القائم نفسه، ليُعاد تشكيل المدينة وفق أجندة جديدة، تفتح الباب أمام طرف يريد أن يقدّم نفسه كمنقذ، وبهذا المعنى يتحول النقد من فعل وطني إلى أداة في صراع النفوذ.

ومن خلال هذا الخطاب، تُقدَّم المدينة وكأنها فاشلة بطبيعتها، وأن أبناءها عاجزون عن إدارة شؤونهم، وهي بالضبط السردية التي طالما روّج لها الحوثي نفسه لتبرير حصاره للمدينة، وهكذا، دون أن يدرك البعض، يجدون أنفسهم يخدمون خصوم تعز السياسيين والعسكريين، حتى وهم يزعمون الدفاع عنها.

لكن هذا النوع من التأثير يبقى هشّ وسريع التبخر، لأن الوعي العام يدرك أن من يصرخ كثيراً ليس بالضرورة من يملك الحقيقة، وبالنسبة لحمود الصوفي وأمثاله، فإن هذا الوعي المتزايد سيجعل حضورهم مؤقتاً ومحدود الأثر، مهما حاولوا تضخيم أنفسهم بخطاب مرتفع النبرة.

 

أجندة متناسقة

 

لا يمكن تجاهل التوقيت المريب لتصاعد هذه الحملات، التي تأتي في ظل تحركات ميدانية للحوثيين وبوادر تصعيد عسكري على أطراف مدينة تعز، وهذه التزامن يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة التنسيق غير المباشر بين الخطاب الإعلامي المدفوع من الساحل، والتحركات العسكرية للحوثيين شمال وشرق المدينة.

فبينما تنشغل المدينة بردّ الهجمات الرقمية على سمعتها ومؤسساتها، تجد العدو الحوثي على الأطراف يعيد تموضعه، مستفيداً من التشتت الإعلامي والسياسي الذي تصنعه هذه الحملة، والنتيجة أن الجهود الوطنية تُستهلك في هذه الجدالاتٍ داخلية.

كما يبدو أن ما يُراد تحقيقه عبر هذا الضخ الإعلامي يتجاوز مجرد تشويه الصورة، فالساحل الغربي يسعى كما يظهر من مخرجات خطابه، إلى خلق بيئة مضطربة في تعز تتيح له الدخول إليها كقوة منقذة، أو على الأقل كمحورٍ سياسي يملك الحلّ حين يُفقد الأمل في القيادات المحلية بدلاً من أحقية الحديث عن قانونية ربط مديريات الساحل بالسلطة المحلية للمحافظة.

وعلى المدى البعيد، يُحاول حمود خالد ومن على شاكلته تحويل صورة الإنهاك الداخلي هذه إلى مبرّر لتوسيع النفوذ السياسي والعسكري مستقبلاً من الساحل إلى المدينة، على حساب المقاومة التي ما زالت تمثل أهم خطوط الدفاع الجمهوري في وجه الحوثي، وبذلك يعتقدون أن استهداف الثقة داخل تعز هي الخطوة الأولى في طريق السيطرة عليها سياسياً دون الحاجة إلى مواجهةٍ مباشرة.

لكن ما يصنعونه يبقى فقاعة إعلامية لا تخرج عن حدود المنصات الاجتماعية، بينما تظل تعز تتحرك على الأرض بفاعلين آخرين يملكون تأثيراً مؤسسياً وميدانياَ حقيقياً، فمعظم من يهاجم المقاومة والجيش الوطني، ويصورون تعز كمدينة عاجزة تستحق "الإنقاذ" يتحدثون من الخارج ومدفوعون من جهة الساحل، وهذا الانسجام الخطابي يكشف عن مشروعٍ منسق هدفه إعادة رسم المشهد في تعز لصالح طارق صالح.

يتحدث الصوفي ومن على شاكلته عن "إنقاذ تعز"، بينما ما يُطرح فعلياً هو استهداف أثر تعز الفعلي وتصديرها لمقاومة الحوثي إلى كل البلاد في خطاب فوضوي لا يقرّ بالشرعية ومؤسساتها التي صمدت طيلة عشر سنوات، وهي محاولة يائسة لإرباك وعي الناس بما يجري على الأرض.

 

معركة الحقيقة

 

لا يمكن أن تُفسر الحملة الإعلامية التي يُطلقها جناح الساحل كمجرد اختلاف في الرأي حول الوضع في المدينة المحاصرة، وإنما تأتي في إطار مشروع يهدف إلى إضعاف مركزها السياسي لصالح قوى ترى في تعز عقبةً أمام طموحاتها.

وإجمالاً، تبدو المعركة الإعلامية ضد تعز جزءاً من سياقٍ أوسع لمحاولة تفكيك فكرة المقاومة اليمنية عموماً وإفراغها من معناها الوطني، لكنها كما صمدت في وجه المدافع والحصار قادرة على الصمود في وجه الدعاية الموجّهة، ما دامت تدرك أن الوعي هو سلاحها الأهم، وأن الحقيقة هي جبهتها المستمرة.

والسؤال هنا بعد أكثر من خمس سنوات؛ هل جاء طارق صالح إلى مديريات الساحل بكل ما أُتيَ من قوة ومال ليحارب الحوثي فعلاً كونه يتواجد على مقربة منه في تخوم مديرية مقبنة، أم أنه يحتفظ بكل ذلك وتتوقف مهمته من المخا على إدارة خلايا إعلامية وأمنية تحت غطاء الخلية الإنسانية، وتكريسها ضد أي توجه وطني جامع كما ظهر من خلال تمويل خطاب تحريضي يستهدف تعز من الداخل، وهل لا زلنا نجهل حتى اليوم لحساب من تعمل هذه الخلايا !؟