في وضح نهار مدينة أنهكها الحصار، وعلى بعد أمتار قليلة من مقرات أمنية وعسكرية يفترض أنها ضمن مربع أكثر تأمينًا، بما في ذلك مقر الأمن السياسي واللواء 170 دفاع جوي، دوى صوت الرصاص، الخميس الماضي، ليغتال افتهان المشهري، مدير صندوق النظافة والتحسين بمحافظة تعز، في جريمة هزت ضمير المجتمع اليمني بأسره.
كانت الرصاصات التي استهدفت المشهري بمثابة طلقة مباشرة في قلب هيبة الدولة، واختبارًا قاسيًا لقدرة سلطات المحافظة على فرض سيادتها في مواجهة شبكات إجرامية منظمة، نمت وترعرعت خلال سنوات الحرب.
كما أن الجريمة التي خطط لها ونفذت بدم بارد، لم تكن مجرد حادثة جنائية عابرة، بل فتحت الباب على مصراعيه أمام واقع مرير، حيث تتشابك خيوط الجريمة، ومصالح الخارجين عن القانون مع نفوذ شخصيات عسكرية واجتماعية نافذة.
هذا الوضع المعقد وضع الأجهزة الأمنية والعسكرية أمام مسؤولية تاريخية، ليس فقط لملاحقة القتلة المباشرين، بل لتفكيك البنية التحتية للجريمة التي توفر لهم الحماية والملاذ، وسط تساؤلات حول ما إذا كانت دماء المشهري ستكون الثمن الأخير الذي تدفعه تعز لبدء معركة حقيقية ضد الخارجين عن القانون.
مطاردة في الظل
فور وقوع الجريمة، انطلقت حملة أمنية وعسكرية مشتركة، في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي وتأكيد حضور الدولة، لتتوالى بعدها الإعلانات عن ضبط عدد من المتهمين، بينهم جسار أحمد قاسم، وأحمد مارش الذي يعتقد أنه أحد راصدي تحركات المشهري، وصولاً إلى تسليم المتهم لؤي جسار عبر وساطة اجتماعية.
لكن خلف هذا المشهد الرسمي، تكشف مصادر مطلعة لـ "المجهر" عن رواية أخرى أكثر قتامة، فالمتهمون الرئيسيون، وعلى رأسهم محمد صادق حميد المخلافي (المنفذ المباشر)، لم يكونوا هاربين في العراء، بل كانوا يتنقلون بأريحية في مناطق شمال المدينة.
وتؤكد المصادر لـ"المجهر" أن المتهمين تواجدوا في محيط جبهة "كلابة" والروضة، تحت حماية شخصيات نافذة أبرزها "عرفات علي منصور"، الذي تشير المعلومات إلى أنه كان يؤمن تنقلهم بين موقعه العسكري ومنزله.
وفيما كانت الحملة الأمنية تداهم بعض المنازل، يؤكد مصدر أمني رفيع أن هناك "ضعفًا شديدًا ومقصودًا في التنسيق بين الأجهزة الاستخباراتية (الأمن السياسي والقومي) والوحدات العسكرية".
ويضيف المصدر لـ"المجهر": "المعلومات كانت شحيحة، وكأن هناك من يتعمد حجبها، تحركات الحملة كانت مكشوفة، مما أتاح للمتهمين فرصة للاختباء والمناورة".
بل إن المصدر يذهب إلى أبعد من ذلك، متهمًا قيادات ميدانية في الحملة الأمنية بلعب دور "تمويه وإلهاء"، وتسريب معلومات لبعض الناشطين، بهدف رسم صورة غير مكتملة للرأي العام، مما يطرح تساؤلات جدية حول مدى وجود اختراق أو تواطؤ داخل الأجهزة المكلفة بإنفاذ القانون.
سباق على "الإنجاز"
في خضم المأساة التي وحدت الشارع، انقسمت السلطة على نفسها في سباق محموم لنسب "الإنجاز" في ضبط المتهمين، مما كشف عن غياب التنسيق بين الأجهزة الأمنية والعسكرية، فكل جهة سارعت إلى إصدار روايتها الخاصة، فيما بدا وكأنه صراع على المكاسب الإعلامية على حساب قضية رأي عام.
شرطة تعز، عبر مركز إعلامها الأمني، أصدرت بيانات متتالية تؤكد أن عمليات الضبط جاءت بجهودها الخالصة وبإشراف مباشر من مدير الأمن العميد منصور الأكحلي، في محاولة لترسيخ دورها كجهة الاختصاص الأولى.
وفي المقابل، لم يتأخر إعلام الجيش الوطني (محور تعز) عن إصدار بيان موازٍ ينسب الفضل إلى "الحملة الأمنية المشتركة" والمحور العسكري بمتابعة رئيس أركان المحور اللواء عبدالعزيز المجيدي في ضبط ثلاثة من المشتبه بهم في القضية.
هذا التضارب في الروايات الرسمية لم يقتصر على المؤسستين الأمنية والعسكرية، بل امتد إلى لاعبين آخرين سعوا لحجز مقعد في مشهد "الإنجاز"، كما فعل رئيس منظمة "حماية" الذي نشر بيانًا يروي دور منظمته وشخصيات قبلية وعسكرية في "تنسيق" عملية تسليم المتهم "لؤي جسار"، مقدمًا نفسه كوسيط لا غنى عنه.
هذا السيل من البيانات المتناقضة لا يعكس فقط حالة من التشتت والفوضى في إدارة الأزمة، بل يغطي على حقيقة جوهرية ومقلقة: أن بعض "الإنجازات" التي تم الاحتفاء بها، لم تكن نتيجة عمليات أمنية حاسمة تفرض هيبة الدولة، بل تمت عبر وساطات قبلية وصفقات خلف الكواليس.
ابتزاز حتى القتل
لم تكن الجريمة وليدة لحظتها، بل كانت الفصل الأخير في مسرحية ابتزاز طويلة وممنهجة، حيث كشف تسجيلات صوتية للمغتالة افتهان المشهري، تروي بصوتها المبحوح قصة معاناتها مع شبكة الجريمة.
القصة بدأت عندما قررت المشهري استعادة المبنى الحكومي كان يتبع الزراعة سابقا ويقيم فيه "جسار أحمد قاسم" وعائلته، وبدلاً من إخلاء المبنى، عرض جسار توفير الحماية للمكان، وهو ما قبلته المشهري "من باب الاحتواء"، كما تقول في التسجيل ليظل الأخير في الدور الأرضي للمبنى.
لكن سرعان ما تحول الأمر إلى كابوس، إذ بدأ جسار وأقاربه، ومنهم محمد صادق، بالتدخل في كل صغيرة وكبيرة في شؤون الصندوق، ومحاولة فرض إتاوات تحت مسمى "الحراسة".
وتكشف مدير صندوق النظافة في التسجيل واقعة خطيرة: "استوقفوا المحاسب ورموا رصاصاً عليه وحاولوا سرقة الشنطة"، كما تضيف بمرارة: "القصة كلها بجسار... القصة قصة استغلال"، وعندما قررت إيقافهم، جاء التهديد الصريح الذي نقله شهود: "عد باقي رأس المديرة".
إلى ذلك، تؤكد مصادر خاصة لـ"المجهر" أن المتهمين اعتبروا أنفسهم موظفين في الصندوق، وحين قررت المديرة الاستغناء عنهم لإنهاء حالة الابتزاز، اعتبروا ذلك مبرراً لقتلها.
وثائق التزام بحسن السلوك، التي وقع عليها المتهم محمد صادق بوساطة من الضابط بكر صادق سرحان قبل شهر من الجريمة، لم تكن سوى دليل إضافي على سبق الإصرار والترصد، وقرينة على أن الجريمة كانت قيد التخطيط .
شبكة معقدة
عند الغوص في خلفيات المتورطين، تتكشف شبكة معقدة من العلاقات والمصالح التي تتجاوز مجرد خلاف على مبنى حكومي، فالمتهم الرئيسي والمنفذ المباشر للجريمة، محمد صادق، ليس مجرد شاب متهور، بل له سابقة جنائية، حيث تكشف المصادر أنه كان متهمًا في جريمة سابقة، وتدخل "جسار أحمد قاسم" ليُحتجز بدلاً عنه حتى تم عقد صلح ودفع دية.
هذا التدخل يكشف عن طبيعة العلاقة بين الرجلين، حيث كان جسار بمثابة الحامي والضامن لمحمد صادق، كما أن جسار نفسه ليس شخصًا عاديًا، فهو يشغل منصبًا رسميًا كمدير لمكتب التربية في مديرية شرعب السلام، وله صفة حزبية، مما منحه غطاءً رسميًا مكنه من البقاء في مقر صندوق النظافة والتدخل كوسيط لفرض أقاربه.
تزداد الشبكة تعقيدًا عند تتبع ارتباطات القاتل الأسرية، فهو ليس معزولاً، بل يرتبط بصلات قرابة مباشرة مع شخصيات نافذة، أبرزها "صادق أحمد المخلافي"، نائب مدير الجوازات، و"صهيب صادق المخلافي"، القيادي البارز في اللواء 170، وهي علاقات توفر له غطاءً وحماية وتفسر جرأته.
كما يبرز اسم "بكر صادق سرحان"، وهو شخصية مثيرة للجدل ومطلوب أمنيًا في قضايا أخرى تصل إحداها إلى حكم بالإعدام، والمفارقة أن بكر نفسه تدخل قبل الجريمة كوسيط لعمل "صلح" وتهدئة، لكنه في حقيقة الأمر كان جزءاً من شبكة الضغط على الشهيدة.
وتكتمل الدائرة بعلاقته الوثيقة بـ "عرفات علي منصور"، القيادي العسكري الذي وفر الملاذ الآمن لبعض المتهمين بعد الجريمة، وكان يؤمن تنقلهم بين منزله وموقعه العسكري في جبهة كلابة.
إن وجود شخصيات مثل "بكر" و"عرفات" ضمن هذه الشبكة ليس صدفة، بل هو جزء من ظاهرة أوسع، حيث يتولى مطلوبون فارون من وجه العدالة في قضايا قتل ونهب سابقة مهامًا قيادية في مواقع عسكرية.
ومن أبرز هؤلاء المطلوبين: همام مرعي، عرفات علي منصور، محمد منير، محمد سرحان، بكر صادق سرحان، وعصام عبدالله مقبل، مما يؤكد أن الجريمة لم تكن فعلاً فرديًا، بل نتاج شبكة متكاملة من المصالح والنفوذ تعمل خارج إطار القانون وبحماية رسمية.
ضغط شعبي
لم تبقَ الجريمة حبيسة البيانات الرسمية المتضاربة، بل انفجرت في وجه السلطات على شكل غضب شعبي عارم، ففي تظاهرة حاشدة هي الرابعة منذ وقوع الجريمة، احتشد آلاف المواطنين أمام مبنى السلطة المحلية، صباح الأحد، يتقدمهم والد إفتهان المشهري وأشقاؤها وعمال النظافة، في مشهد يعكس حجم الصدمة والإصرار على المحاسبة.
الهتافات التي رددها المحتجون لم تقتصر على المطالبة بالقبض على القتلة، بل تجاوزتها إلى الدعوة لإنهاء نفوذ شبكات الجريمة ومحاسبة المتسترين، في دلالة واضحة على أن الشارع يرى الجريمة كعرض لمرض أعمق.
هذا الضغط الشعبي، الذي تفاقم مع استمرار إضراب عمال النظافة وتكدس القمامة، وضع السلطة المحلية في موقف حرج، وأجبرها على التحرك، حيث عقدت عقب ذلك اجتماعا برئاسة وكيل أول المحافظة عبدالقوي المخلافي مع وجهاء ومشايخ الحجرية مسقط رأس المشهري، بحضور قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية.
وجددت السلطة في اجتماعها الالتزام القاطع بإنفاذ القانون، حيث أكد المخلافي أن "العدالة ستأخذ مجراها" وأن أي تهاون لن يُسمح به، داعيًا إلى تعاون الجميع لتسريع القبض على الجناة.
وبينما أشاد الوجهاء بالتحركات الأمنية، يبقى هذا الوعد الرسمي على المحك، مرهوناً بقدرة السلطات على ترجمة الأقوال إلى أفعال، وتحويل الضغط الشعبي إلى فرصة حقيقية لبسط سلطة الدولة، بدلاً من الاكتفاء بإجراءات شكلية تهدف فقط إلى تهدئة الشارع مؤقتًا.
القانون ومنطق القبيلة
مع تضييق الخناق على الجناة، برز دور "الوجاهات الاجتماعية" بشكل لافت، ليكشف عن الصراع العميق بين منطق الدولة ومنطق القبيلة، فعملية تسليم المتهم "لؤي جسار" لم تتم عبر عملية أمنية مباشرة، بل عبر وساطة قادها مدير مديرية التعزية وشخصيات قيادية رسمية وإجتماعية أخرى، تواصلت مع نائب مدير الأمن لتسليمه ليلاً، في مشهد يهدف إلى تخفيف الضغط.
يرى مراقبون أن هذا المشهد، الذي تكرر في قضايا سابقة، يعكس هشاشة سلطة الدولة، حيث لا تزال الوساطات القبلية تشكل مسارًا موازيًا للقانون، وغالبًا ما تستخدم للالتفاف على الإجراءات الصارمة وتخفيف الأحكام.
ناشطون، اعتبروا أن تسليم المتهم "لم يكن سوى خطوة يائسة بعد أن أدرك أن طريقه إلى إدارة الأمن حتمي" وهو ما يكشف حجم التأثير الذي خلفه الضغط الرسمي والشعبي.
وبحسب الناشطون، فإن تكاثف الضغوط من كل الاتجاهات، ومتابعة وكيل أول المحافظة والأجهزة الأمنية وقيادات المحور، ورئيس مجلس المقاومة الشعبية حمود سعيد المخلافي، هي التي أجبرت أسرة المتهم على تسليمه، أما الفيديو الذي نشره المتهم فلم يكن إلا "محاولة بائسة لكسب التعاطف".
لكن مصادر مطلعة تؤكد لـ"المجهر" أن شخصيات رسمية واجتماعية كانت على علم مسبق بأماكن وجود المتهمين، ولم يكن هدفها تسليم القتلة، وهو ما يضعف من هيبة الدولة ويشجع على تكرار مثل هذه الجرائم.
ويبقى السؤال الأهم الذي يتردد في شوارع تعز: هل ستتمكن الأجهزة الأمنية والعسكرية هذه المرة من كسر الحلقة المفرغة، والقبض على كافة المتورطين من منفذين ومحرضين ومتسترين، وتقديمهم لمحاكمة عادلة وسريعة تكون رادعًا لغيرهم؟ أم أن نفوذ الشبكات المتجذرة والوساطات القبلية سينجح مرة أخرى في تمييع القضية، لتبقى تعز مدينة تدفع ثمن صراعها من أجل بسط سيطرة الدولة؟
تابع المجهر نت على X