تُعد المديريات الساحلية لمحافظة تعز ذات أهمية استراتيجية بالغة، نظرًا لموقعها الجغرافي المطل على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، مما يمنحها قيمة عسكرية واقتصادية كبيرة.
وتقع هذه المديريات، وهي المخا، وذوباب، وموزع، والوازعية، وجزء من مديرية مقبنة غرب محافظة تعز، بالإضافة إلى مديرية الخوخة وأجزاء من مديريتي حيس والتحيتا جنوبي الحديدة، في إطار نفوذ قوات "المقاومة الوطنية" بقيادة العميد طارق محمد عبدالله صالح، نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي.
وتُدار هذه المناطق على الواقع بشكل منفصل عن مركز المحافظة في مدينة تعز، حيث تمارس المقاومة الوطنية نفوذًا كاملاً على الإدارات المحلية في ظل تغييب فعلي للإشراف الرسمي من قبل قيادة المحافظة التي تمثل الحكومة الشرعية، ما يجعل المحافظة تعيش حالة من الانقسام الإداري والأمني.
ويمثل هذا الانقسام معاناة إضافية إلى جانب الحصار المفروض من قبل جماعة الحوثي، حيث خلق ذلك تعقيدات سياسية وعسكرية للمشهد العام في المحافظة، وهو ما يعكس صورة عن الخلل البنيوي داخل مكونات الحكومة الشرعية، وهو ما اعتبره سياسيون أحد أبرز العوائق أمام جهود استعادة مؤسسات الدولة.
يكشف هذا التقرير تفاصيل مثيرة عن واقع إدارة هذه المديريات التي تمثل جزءًا من مساحة محافظة تعز، كما يضع علامات استفهام حول المسار المرسوم لهذه المناطق وسط معادلة أمنية وإدارية غير متوازنة.
انقسام إداري
تثير الممارسات الإدارية التي ينفذها العميد طارق صالح في مديريات الساحل الغربي لمحافظة تعز جدلًا واسعًا، خاصة فيما يتعلق بتعيينات المسؤولين المحليين وإدارة المؤسسات الحكومية بمعزل عن السلطة المحلية الرسمية للمحافظة. ومن منظور قانوني ومهني، تُعد هذه الإجراءات خروقات صريحة للقوانين اليمنية الناظمة للسلطة المحلية والإدارة العامة في المحافظات.
يقول مسؤول في السلطة المحلية بتعز – فضل عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية – إن آلية تعيين مديري المديريات في الساحل تتم من خلال ترشيحات ترفع من قبل مكتب طارق صالح إلى محافظ المحافظة، وعادة ما تظل هذه التعيينات محدودة الفاعلية، حيث يُمنع المعينون من ممارسة دورهم الفعلي ما لم يحظوا بقبول شخصي من قبله.
وتعكس هذه التصرفات، وفقًا للمسؤول المحلي، ازدواجية واضحة في إدارة الساحل الغربي، حيث يشير في حديثه لـ"المجهر" إلى أن "التوجيهات والمذكرات الصادرة عن الجهات الرسمية للسلطة المحلية في تعز لا تُنفذ إلا بعد موافقة غير معلنة من مكتب طارق صالح، أو أن يتم إصدار التوجيهات والقرارات بشكل مباشر من قبله، ما يجعل من أي تمثيل للسلطة المحلية مجرد حضور صوري لا أكثر".
وبدورها تحدثت مصادر أمنية مطلعة عن تعيينات صدرت من قبل إدارة أمن تعز لمديري أمن في المديريات الساحلية للمحافظة وفقًا للإجراءات القانونية، غير أنهم مُنعوا من تسلّم مهامهم أو البقاء في مقرات عملهم.
وفي المقابل، تبين المصادر خلال حديثها لـ"المجهر" أن المكتب السياسي التابع لطارق صالح شرع بتكليف شخصيات أخرى بمهام إدارة الأمن في تلك المديريات، متجاوزًا صلاحيات السلطة المحلية عبر مؤسسات رسمية.
ويرى مراقبون أن هذا الوضع يعزز من فكرة "عزل تعز" عن مديريات الساحل، في ظل ممارسات تنزع الصفة القانونية عن التعيينات الرسمية، وتُخضع القرار المحلي في الساحل الغربي لسلطة موازية.
تحديات أمنية
يحرص طارق صالح على فرض شخصيات تابعة له لتولي مناصب أمنية في المديريات الساحلية بعيدًا عن التنسيق مع السلطات المحلية في تعز، الأمر الذي يعمق التحديات الأمنية في خطوة تتجاوز القوانين واللوائح السارية في المحافظة.
وأصبح الانقسام الإداري والأمني بين المناطق الساحلية ومحافظة تعز واقعًا ملموسًا، بعدما تمكن طارق صالح من فرض سيطرته على مديريات الساحل عبر تعيين شخصيات موالية له على حساب إدارة أمن تعز الرسمية.
وأبرز مثال على هذا الانقسام هو تعيين عبدالكريم السامعي مديرًا لأمن مديرية الوازعية، وهو الذي كان مطلوبًا للأجهزة الأمنية والقضائية بتعز، بعد تورطه في حادثة اقتحام مقر أمني بمدينة التربة في 2019، والتي أسفرت عن مقتل وجرح عدد من رجال الأمن، ليفرّ إلى الساحل بعد ذلك، ويُكافأ من قبل طارق صالح في منصب أمني مهم بدلاً من تسليمه للعدالة.
يحدث هذا على الرغم من إصدار مدير أمن تعز قرارًا بتعيين عزالدين المشولي مديرًا لأمن الوازعية، إلا أن المشولي لم يتمكن من استلام مهامه بسبب نفوذ طارق صالح في تلك المديرية.
وإلى جانب أن هذه المشكلة تمثل مخالفة إدارية واضحة في الإجراءات، فهي أيضًا مخالفة قانونية جسيمة، حيث لا يقتصر الأمر على غياب التنسيق مع إدارة أمن تعز فحسب، بل يتعداه إلى تجاوز السلطات القضائية والأمنية المختصة.
ولم يتوقف هذا النهج عند إدارة أمن الوازعية، بل تكرر مع باقي مديريات الساحل، حيث تم تعيين إبراهيم الجعفري مديرًا لأمن مديرية ذوباب في 2021، ولم يتمكن من مباشرة عمله بسبب تهميش قرارات إدارة أمن تعز، ليقوم طارق صالح بعد ذلك بتعيين حمدون الصبيحي بدلاً منه. كما حدثت نفس الإشكالية أيضًا مع إدارة أمن موزع.
وبحسب مراقبين، يثير هذا النهج كثيرًا من التساؤلات حول مصير التنسيق الأمني بين تعز والساحل. فعلى الرغم من وجود تنسيق محدود بين السلطات الأمنية والقضائية، إلا أن هناك تحفظات كبيرة في التعاون بين الجانبين فيما يتعلق بقضايا أمنية كبيرة مثل المطلوبين، والسجناء، والفارين من العدالة.
تقويض مؤسسات الدولة
يستغل طارق صالح نفوذه في تعيين مقربين منه في فروع مكاتب السلطة المحلية بمديريات تعز الساحلية حتى لو كانت شخصيات مثيرة للجدل، الأمر الذي يفاقم من حالة الاحتقان والضعف في أداء المؤسسات الحكومية بالمناطق المحررة بالمحافظة.
فعلى سبيل المثال، جرى تكليف شخص يدعى شهاب عبدالله علي هزاع بإدارة قطاع الأوقاف في المخا ومديريات الساحل، فيما تظهر وثائق حصل عليها "المجهر" تورطه بملفات فساد إداري ومالي، وصدور قرارات قضائية عديدة بحقه، بينها أوامر توقيف وفصل من الوظيفة، أقرها القضاء ومحافظو تعز المتعاقبون.
وتنوعت الأحكام الصادرة بحقه بين السجن لعدة سنوات، والعزل من منصبه، وإلزامه برد مبالغ مختلسة تجاوزت 6.6 ملايين ريال يمني، إلى جانب إدانته باستخدام أختام مزورة لتحصيل الإيرادات.
ومع ذلك، تذكر مصادر محلية أن طارق صالح استغل نفوذه داخل مجلس القيادة الرئاسي، بالتنسيق مع وزير الأوقاف، لتسهيل استمرار شهاب هزاع في منصبه غير القانوني، على الرغم من المخالفات الجسيمة المنسوبة إليه.
وتشير الوثائق والمعلومات المتداولة إلى إنفاق شهاب مئات الملايين تحت غطاء مشاريع خاصة بالأوقاف، بتمويل من الخلية الإنسانية والمنظمات والجمعيات الداعمة، دون وجود شفافية في إدارة تلك الأموال أو خضوعها لأي رقابة من الجهات الرسمية.
ويمثل شهاب هزاع نموذجًا فاضحًا لتقويض مؤسسات الدولة وتجاهل سلطة القضاء، في مشهد يجسد انهيار العدالة واستمرار الإفلات من العقاب على يد شركاء في الحكومة الشرعية يُنتظر منهم تحرير البلاد من يد جماعة الحوثي.
سلطة موازية
تمتلك مديرية المخا مكاتب موازية للسلطة المحلية بمحافظة تعز، على الرغم من قيام طارق صالح، عضو مجلس القيادة الرئاسي وقائد المقاومة الوطنية، برفع أسماء مرشحين إلى محافظ تعز، ليقوم الأخير بإصدار قرارات التعيين الرسمية، ما يجعل التعيينات الإدارية خاضعة بشكل غير مباشر لنفوذ صالح وتوجهاته السياسية.
هذا النمط من التنسيق أحادي الاتجاه أدى إلى حالة من العزل الوظيفي والإداري بين المديريات الساحلية وباقي مديريات المحافظة، حيث يجري التعامل مع هذه المناطق كوحدات إدارية شبه مستقلة، خصوصًا في الجوانب الأمنية والإجرائية، مع وجود تنسيق محدود يقتصر على بعض القضايا الطارئة فقط.
وتتجلى هذه الحالة في مثال شركة الغاز، حيث يتم التعامل مع مدير مكتبها في المخا محمد العروسي كممثل مستقل على قدم المساواة مع مكتب الغاز الرئيسي في تعز، في مخالفة صريحة للهيكل الإداري الذي يُفترض أن يجعل المخا تابعة لمكتب الغاز في تعز.
وبشكل عام تشهد المديريات الساحلية لمحافظة تعز تفاوتًا ملحوظًا في مستوى الخدمات والتنمية، حيث تُمنح مدينة المخا اهتمامًا استثنائيًا باعتبارها مركزًا للنشاط الاستثماري والخدماتي، بينما تعاني مديريات أخرى مثل باب المندب، وموزع، والوازعية من تهميش واضح في المشاريع التنموية والخدمية.
وبحسب رصد ميداني قام به "المجهر"، فإن المؤسسات الحكومية في هذه المناطق تعاني من ضعف الأداء، نتيجة تعيين المسؤولين بناءً على الولاء السياسي بدلًا من الكفاءة، وبالتالي أدى ذلك إلى ضعف في تحصيل الإيرادات، كما هو الحال في قطاع الثروة السمكية، الذي سجل إيرادات متواضعة جدًا في عام 2024.
ويُلاحظ أن الاهتمام بالمخا يعود إلى عاملين رئيسيين: وجود نازحين من مناطق الهضبة الوسطى، وولاء القيادات المحلية للمكتب السياسي للمقاومة الوطنية. وهذا التوجه أدى إلى تحويل المخا إلى مركز جذب للاستثمارات ومحاولة جعلها عاصمة غير رسمية لما يُعرف بـ"الساحل الغربي"، في حين تُهمش المديريات الأخرى التي لا تتوفر فيها هذه المعايير.
أزمة الأراضي
تفاقمت أزمة الأراضي بشكل ملحوظ في مدينة المخا، حيث تحولت الهيئة العامة للأراضي والمساحة والتخطيط العمراني من جهة تنظيمية إلى طرف في نزاعات متزايدة مع المواطنين.
يتهم الأهالي فرع الهيئة في المخا بتجاهل وثائق الملكية الخاصة، واعتبار معظم أراضي المدينة أملاك دولة، استنادًا إلى تفسير خاطئ للقانون رقم (21) لسنة 1995، وهذا التفسير أدى إلى منع المواطنين من التصرف في ممتلكاتهم، ودفعهم إلى اللجوء للمحاكم، التي غالبًا ما تُصدر أحكامًا لا تُنفذ.
ونتيجة لهذا الوضع، يلجأ المواطنون إلى البناء خفية أو دفع إتاوات غير قانونية، مما يعمق مظاهر الفساد في المدينة، الأمر الذي أسهم في تفاقم أزمة الأراضي، خاصة مع ارتفاع أسعارها، وتجاهل السلطات المحلية والمركزية لهذه القضايا.
وفي ظل حالة الفوضى هذه، تتعالى الأصوات المطالبة بإصلاح الوضع وتفعيل دور القضاء بما يضمن احترام القانون، لحماية حقوق المواطنين واستعادة الثقة في المؤسسات الرسمية.
ويأمل مختصون أن يتم تجاوز حالة الانقسام الإداري، من أجل أن تلقى هذه القضية آذانًا صاغية لدى مسؤولي الهيئة العامة للأراضي والسلطات السياسية والتنفيذية في تعز للاهتمام بالشريط الساحلي لمحافظة تعز، وتحديدًا في مدينة المخا التي تمثل مركزًا واعدًا لأي تحول تنموي قادم.
انتهاكات متصاعدة
تشهد مديريات الساحل الغربي لمحافظة تعز، الخاضعة لسيطرة قوات "المقاومة الوطنية" بقيادة العميد طارق صالح، انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، تتضمن اعتقالات تعسفية وتعذيبًا للمعتقلين، وفقًا لتقارير حقوقية.
بالرغم من تشكيل لجنة قانونية بتكليف من العميد طارق صالح في يناير/كانون الثاني من العام 2023، لتقييم أوضاع السجون في نطاق سيطرته، والتي لم تسجل أي انتهاكات بحق السجناء، إلا أن تقارير حقوقية تؤكد استمرار الانتهاكات، ما يثير تساؤلات حول فعالية هذه اللجنة ومدى استقلاليتها.
وفي خطوة تثير القلق بشأن ممارسات الاعتقال خارج إطار القانون في مناطق الساحل الغربي اليمني، قامت قوات تابعة لطارق صالح، نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، باعتقال المواطن أوسان سعيد جبلي من داخل محل تجاري في مديرية موزع بمحافظة تعز.
وبحسب مصادر محلية تحدثت لـ"المجهر"، اقتادته عناصر أمنية إلى سجن يُعرف بـ"سجن القانونية" الواقع داخل معسكر "أبو موسى الأشعري" في مديرية الخوخة، والذي تديره "الوحدة 400" التابعة لعمار محمد عبدالله صالح، شقيق طارق صالح.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، نفذت قوات طارق صالح حملة اعتقالات استهدفت مشايخ وشخصيات اجتماعية في مديرية المخا، بينهم الشيخ حمود راجح والشيخ فضل الزوقري، دون توضيح الأسباب.
ووثقت منظمة "رايتس رادار" حملة اعتقالات واسعة نفذتها القوات الخاصة في الحديدة في سبتمبر/أيلول من العام الماضي، بأمر من قائدها صادق عطية، استهدفت أكثر من 40 مواطنًا، بينهم معلمون وصيادلة من أبناء مديرية الخوخة، أودع 13 منهم في "سجن القانونية".
كما أشارت منظمة "سام للحقوق والحريات" إلى اعتقال المواطن صديق علي قايد محمد، البالغ من العمر 60 عامًا، منذ ديسمبر 2022 في نفس السجن، بتهم كيدية تتعلق بالتواصل مع الحوثيين، دون أي إجراءات قانونية واضحة.
وبدوره ذكر المركز الأمريكي للعدالة أن قوات المقاومة الوطنية مستمرة في إخفاء الصيادين (عثمان علي سالم الميطي، حسين أحمد الميطي، ومنصور أحمد الميطي) منذ يونيو/حزيران 2020، في سجن "الوحدة 400" دون توجيه أي تهم رسمية لهم.
وتعد "الوحدة 400" جهازًا أمنيًا واستخباراتيًا غير رسمي، يمارس سلطته على مناطق المديريات الساحلية الواقعة في إطار سيطرة الشرعية، من مديرية الخوخة إلى مديرية ذوباب، وتُتهم مصادر حقوقية هذه الوحدة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والتعذيب، دون إشراف من السلطات المحلية أو القضائية.
حتمية حضور الدولة
انعقدت آمال كثير من المواطنين عقب انضمام طارق صالح إلى صفوف قيادة الشرعية وتوليه منصب نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي في ضبط الأداء الأمني والإداري وتعزيز حضور الدولة في المناطق المحررة، غير أن ما يجري على الأرض يشير إلى استمرار العمل خارج مؤسسات الدولة وتكريس نفوذ شخصي وعسكري يتعارض مع أهداف المرحلة.
ويعتقد محللون أن اليمن لا تعاني من غياب للأطر المؤسسية أو النظم الإدارية، بقدر ما تواجه تحديًا جوهريًا في اختطاف مؤسسات الدولة وتوجيهها بعيدًا عن الصالح العام نحو خدمة مصالح ضيقة تُعمق الفساد وتُكرّس التخلف الاقتصادي والاجتماعي.
ومن هذا المنطلق، فإن البلاد بحاجة ماسة إلى دور قيادي قادر على مواجهة التحديات وخلق مسارات تغيير حقيقية تدفع اليمن نحو بناء مؤسسات دولة قوية وفعالة للإسهام في استعادة الثقة بين المواطن والسلطة.
تابع المجهر نت على X