وجوه منسيّة تُحيي حضورها عبر استغلال اغتيال المشهري لتصفية الحسابات في تعز (تحليل خاص)

وجوه منسيّة تُحيي حضورها عبر استغلال اغتيال المشهري لتصفية الحسابات في تعز (تحليل خاص)

منذ الوهلة الأولى على اغتيال مديرة نظافة تعز، إفتهان المشهري، برصاص مسلحين وسط المدينة، كشفت تداعيات الواقعة عن شبكة معقدة من المصالح السياسية والأجندة الخفية، عبر شخصيات منسية وجدت في القضية ذات الطابع الجنائي فرصة لاستثمارها ومحاولة خطف الأضواء بعد أفول نجمها على الساحة السياسية في تعز وفي اليمن عمومًا. 

 هذه الجريمة المأساوية، التي هزت الرأي العام، تحولت وفق خطة مدروسة إلى وقود تستغله شخصيات سياسية وعامة وناشطون، لتوجيه سهام النقد الحاد نحو سلطات تعز، وتصفية حسابات قديمة ومتجددة، بدلا عن المطالبة بتحقيق العدالة وإسناد جهود السلطات الأمنية والعسكرية التي تواجه شحة كبيرة في الإمكانات في ظل استمرار الحرب والحصار. 

في هذا التحليل الصحفي نضع النقاط على الحروف، ونحاول تفكيك بنية هذه الشبكة، من خلال دراسة أدوار الشخصيات الرئيسية والثانوية وحتى المساندة لذات التوجه الذي يحمل أهدافًا خاصة تتجاوز حدود القضايا العادلة، وذلك عبر تحليل مواقفهم ومنشوراتهم وتصريحاتهم منذ منتصف سبتمبر/ أيلول الماضي. 

 

تحريض مكشوف

 

استخدمت الشبكة أساليب ممنهجة في المهاجمة والتشكيك والتخوين والتشويه، وعملت على بث خطاب تحريضي متزامن لشيطنة الجميع في تعز، سلطة، وجيش، وأمن، وجهات سياسية، كما وصل بها الأمر إلى استنفار جميع قدراتها الإعلامية والسياسية لتصوير المدينة التي كسرت صلف الحوثيين قبل عقد، وكأنها "غابة موحشة" تنتظر الخلاص. 

وجدت هذه الشخصيات المنسية، في قضية إغتيال المشهري، فرصة لإعادة تموضعها، عبر محاولة تقديم سرية خاصة توهم الشارع التعزي بأنها تقف إلى جانبه وتنتصر لمظلومياته، لكن التحرك السريع من قبل السلطات الأمنية والعسكرية في تعز أربك حسابات الشبكة، ما دفعها إلى استجرار قضايا وصراعات قديمة. 

والملاحظ أن المتصدرين على رأس هذه الشبكة، يمتلكون تأريخا مليء بالتناقضات، والمواقف المتقلبة، بل إن بعضهم لم يصدر عنه موقف واضح منذ انقلاب الحوثيين على الدولة 2014م، مما يجعل عودته المفاجئة الآن وإيلاء الاهتمام بقضايا تعز أمر يثير التساؤلات عن الأهداف التي يسعى لتحقيقها. 

 

مخبر سابق

 

على رأس القائمة يبرز اسم السياسي حمود خالد الصوفي محافظ تعز الأسبق، الرجل الذي يحيط به الغموض ويواجه اتهامات عدة منذ مغادرته للبلاد عقب انقلاب الحوثيين، حيث كان رئيسا لأكبر جهاز استخباراتي في البلاد (الأمن السياسي) وأحد المقربين من الرئيس الراحل على عبدالله صالح. 

المغادرة المفاجئة للصوفي إلى ألمانيا ثم الإمارات طرحت تساؤلات بشأن المهام المشبوهة التي يتم تهيئة الرجل لأجلها لاحقا، خصوصا وأنه بدأ في الحزب الناصري ثم المؤتمر الشعبي العام، وانتهى به المطاف قبل مغادرته للبلاد "مخبرًا للحوثيين" وفق مصادر سياسية. 

منذ إنشائه حسابا على منصة "فيسبوك" في العام 2019 لم تتجاوز منشورات الصوفي خمسة؛ إحداها تمتدح عسكرية القيادي الحوثي البارز سلطان السامعي، في حين تجاوزت منشوراته منذ اغتيال المشهري عشرة منشورات، شعرا ونثرا، في خطاب تحريضي حاد. 

وعلى الرغم من عدم توجيهه اتهامات مباشرة لشخصيات محددة في منشوراته الأولى إلا أنه هاجم ضمنيا السلطات في تعز محملا الجميع المسؤولية لرفع الغطاء عن ما وصفها بـ"وجوه القتلة القبيحة". 

ولم يلبث الرجل طويلا في الكشف عن نواياه المبطنة في مهاجمة أطراف محسوبة على المقاومة وداعمة للجيش وتشويه صورتهم، متجاوزا بذلك استنكار الجريمة إلى التشكيك في الوضع العام في تعز، والإساءة للسلطات الأمنية والعسكرية بوصفهم أنهم "يرفعون راية بلا ضمير". 

واستخدم حمود الصوفي لغة شعرية وعاطفية لتشويه السردية القائمة في تعز، مصوّرا إياها كمدينة تعيش الرعب والفوضى، وهو ما يمكن تفسيره كدعوة لفرض واقع إداري وسياسي جديد، عبر المبالغة في التلميح إلى فشل الخيارات الحالية.  

 

ازدواج الموقف

 

داخليا ومن قلب مدينة تعز، تبرز شخصية سلطوية ومعارضة في آن واحد، ويعد دورها محوريا في الشبكة، وعلى الرغم من عدم امتلاكه حسابات على منصات التواصل الاجتماعي إلا أن امتلاكه للأدوات اللازمة ووجوده ضمن السلطة جعله يشارك بفاعلية في استثمار القضية وتوجيه رسائل سياسية. 

تشير المعطيات إلى أن عبدالله نعمان أمين عام التنظيم الوحدوي الناصري يسعى دائما لتصدر أي موجه معارضة، موجهًا اتهامات لمكونات سياسية أخرى بالفشل والفساد، دون اتخاذ أي مواقف فعلية تؤكد جدية مساعيه، كسحب بعض ممثليه في السلطة، ما يثير الشكوك حول دوافعه الحقيقية ويكشف استغلاله للقضايا بهدف تحقيق مكاسب سياسية. 

عقب اغتيال المشهري كثّف نعمان من مشاركاته في الفعاليات الاحتجاجية، بالتزامن مع إشادة مصطنعة أغدق بها أتباعه عليه بوصفه "محامي الشعب" وهو اللقب الذي يتعمد تسويق نفسه به لكسب تأييد الشارع، غير أن ظهوره المتكرر وحرصه على استمرار الغضب الشعبي يؤكد استغلاله للقضية ومحاولة توجيه الرأي العام. 

 

انتقام مؤجل

 

محافظ تعز السابق أمين محمود، وجد في قضية اغتيال المشهري فرصة ثمينة لتوجيه انتقادات حادة ومباشرة لأطراف سياسية وعسكرية في تعز، ما يكشف عن مساعيه للانتقام ردًا على إقالته من منصب المحافظ في العام 2018 بعد أشهر من تعيينه بسبب عدم حالة عدم الوفاق التي صنعها مع المكونات السياسية وتصاعد الرفض الشعبي. 

يوجه محمود اتهامات مباشرة لقيادات تعز، واصفا إياهم بـ "مسؤولي وقادة الفشل العظيم"، وبدلا من التركيز على تحقيق العدالة يطالب الرجل في إقالة شخصيات عسكرية وأمنية لعدم قناعته باستمرارها، كما يبالغ في مهاجمة حزب الإصلاح ويحمله مسؤولية جميع ما يحدث. 

ولم تتوقف اتهامات أمين محمود عند المطالبة بإقالة عدد من الشخصيات بل واصل وصف السلطات الأمنية والعسكرية بـ "المليشيا المسلحة"، محذرًا من مصير التصنيف كـ"جماعة إرهابية"، في تلميح بامتلاكه تأثيرا خارجيًا لتصفية حساباته بعد فشله على المستوى الداخلي. 

 

شخصيات ثانوية

 

في موازاة الأسماء الرئيسية التي تصدّرت المشهد، برزت مجموعة من الشخصيات الثانوية التي حاولت الاستثمار في قضية اغتيال إفتهان المشهري لتجديد حضورها السياسي والإعلامي، عبر تبنّي خطابٍ انفعالي يخلط بين العاطفة والتصعيد، ويتقاطع في مجمله مع الخط العام للشبكة في استهداف تعز.

يأتي في مقدمة هؤلاء علي البخيتي، الذي حوّل القضية إلى منبر للهجوم على خصومه، مستخدمًا اللغة الإنسانية مدخلًا لتوجيه اتهامات مباشرة لقيادات عسكرية وأمنية ومدنية، وواصفًا إياهم بـ"العصابة" و"المافيا" التي تستبيح دماء أبناء تعز، ومحمّلًا حزب الإصلاح المسؤولية السياسية والأخلاقية.

اتسم خطاب البخيتي بالتصعيد والتشكيك في نزاهة التحقيقات، والسعي لتقويض الثقة بالسلطات المحلية، عبر تصوير تعز كمدينة تائهة في فوضى يديرها الفساد والمحسوبية.

وفي السياق ذاته، برز جلال الصلاحي بخطاب قريب من لهجة البخيتي، استثمر القضية لتأليب الشارع التعزي ضد السلطة المحلية، مصورًا نفسه كصوت شعبي يدافع عن المظلومين، فيما ركز في منشوراته على مهاجمة القيادات المدنية والعسكرية، مستخدمًا لغة تعبّر عن الغضب والسخرية، وتصب في تعزيز الانقسام، أكثر من دعم مسار العدالة.

أما عبدالستار الشميري فاعتمد نهجًا أكثر حدّة وصراحة في التخوين، موجهًا اتهامات مباشرة لأسماء محددة في تعز، ومتهمًا السلطة المحلية بالفشل في حماية المدينة و"التواطؤ مع القتلة".

إذ لجأ الشميري إلى توصيفات جارحة ومبالغات لغوية لتصوير تعز كمدينة فقدت قيمها، في محاولة بائسة لإظهار نفسه كممثل للغضب الشعبي ضد السلطة، غير أن خطابه يعكس بوضوح خيبات الاغتراب السياسي له في القاهرة ،أكثر من كونه تعبير حقيقي عن نبض الشارع التعزي. 

كما تبنّى نايف حسان خطابًا تحريضيًا ودعوة صريحة للفوضى، مهاجمًا القيادات المحلية ومشككًا في نزاهة المؤسسات الأمنية والقضائية، ومستخدماً لغة تصعيدية تدعو إلى "دك أوكار الفساد" و"تحرير تعز من الأيديولوجيا الحزبية".

تجاوز حسان النقد إلى التحريض المباشر على المواجهة، ما كشف عن انخراطه في مسار يهدف إلى زعزعة الاستقرار بدلاً من الدفاع عن العدالة.

عبدالخالق سيف، مدير ثقافة تعز السابق لم تختلف مواقفه كثيرا عن سابقيه إذ حاول تصدير نفسه كصوت معبر عن المظلومين وأحد المعارضين بشدة لأداء السلطة المحلية بعد أن أصبح خارجها، في حين تظهر له مواقف سابقة مغايرة كمنعه أحد المواطنين من توجيه رسالة للمحافظ شمسان في إحدى الفعاليات.

وتتقاطع مواقف هذه الشخصيات، على اختلاف خلفياتها، في سعيها لتأجيج الغضب الشعبي وتوجيهه نحو السلطة المحلية، باستخدام عبارات متكررة ومفردات متشابهة، تعكس وحدة الرسالة والأهداف.

إذ تبدو منشوراتهم وتصريحاتهم وكأنها تصدر من غرفة إعلامية واحدة تسعى إلى إعادة إنتاج صورة تعز كمدينة فاشلة وغارقة في الفساد، بما يخدم أجندات تتجاوز قضية اغتيال المشهري ذاتها.

 

مسار موحد

 

يتضح من خلال تحليل بنية الشبكة، وجود نمط مشترك بين الشخصيات في تناولهم لقضية اغتيال المشهري، مما يؤكد وجود جهود مترابطة لتحقيق أجندة مشتركة تتركز في مجملها على التشويه والتخوين ونزع الشرعية عن السلطة في تعز عبر إظهارها كفاسدة وفاشلة تمامًا. 

استغلت الشبكة الغضب الشعبي تجاه جريمة الاغتيال لتحريض الجماهير على الاحتجاج والتصعيد ضد السلطة، باستخدام لغة حادة ومباشرة لإثارة المشاعر ودفع الناس إلى الشارع، بهدف خلق حالة من عدم الاستقرار.

وتجاوز استثمار القضية لتصفية الحسابات عبر الاتهامات بالفساد والفشل، إلى محاول فرض واقع جديد وتحقيق مكاسب سياسية وإعادة تصدير بعض الشخصيات المنسية إلى الواجهة وهو ما لم يكن ليحدث دون وجود ذريعة مناسبة كهذه. 

كما أن استخدام أساليب التخوين والتشويه بشكل ممنهج ضد الخصوم وربطهم بالفساد أو التواطؤ مع الجناة، ينم عن انحراف واضح في مسار المطالبة بالانتصار لقضية عادلة إلى ابتكار أساليب ملتوية لتنفيذ أهداف وحسابات خاصة.  

ختامًا، تُظهر مجمل المؤشرات أن قضية اغتيال إفتهان المشهري تحوّلت إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات السياسية والإعلامية، وأن كثيرًا من الأصوات التي ادّعت تبنّي العدالة، اتخذتها وسيلة للعودة إلى الضوء وإعادة تشكيل نفوذها.

وبينما تواصل السلطات الأمنية في تعز مساعيها لاستكمال التحقيقات بعد تحييد المتهم الرئيسي والقبض على آخرين، يبقى الرهان الحقيقي على وعي المجتمع في إدراك محاولات التوظيف السياسي، ودعم جهود تحقيق العدالة بعيدًا عن صخب الحملات الموجهة.