رفعت الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد، مؤخرًا، تقريرًا ماليًا للنائب العام كشفت فيه عن مخالفات ممنهجة تتضمن تحويل الإيرادات العامة إلى حسابات خاصة في بنوك وشركات صرافة، في انتهاك صريح للقانون المالي والدستوري، ما أدى إلى هدر مليارات الريالات وخلق سوق مالية سوداء موازية، بعيدة عن الرقابة الرسمية.
وبحسب التقرير، فإن المؤسسات المتورطة تشمل فروع ومكاتب شركات النفط والاتصالات والطيران، وعدد من الصناديق الإيرادية، إضافة إلى جهات حكومية أخرى ذات طابع خدمي وتجاري.
تقوم هذه الجهات بفتح حسابات في 15 بنكًا و5 مؤسسات صرافة، تُستخدم كقنوات بديلة لتحويل الأموال العامة بعيدًا عن البنك المركزي، وهو ما وصفته الهيئة بأنه "عبث منظم بالإيرادات السيادية".
وطالبت الهيئة في مذكرتها المرفقة، النائب العام في عدن باتخاذ إجراءات قانونية عاجلة ضد هذه الجهات والمسؤولين المتسببين في هذا الخلل الجسيم، مؤكدة أن استمرار عرقلة توريد الإيرادات يشكّل تهديدًا مباشرًا لسيادة الدولة المالية ولبقاء الحكومة نفسها.
نفوذ غير شرعي
في فبراير/ شباط من العام الجاري، فجّرت هيئة مكافحة الفساد في عدن واحدة من أكبر قضايا الفساد المالي في اليمن، حين كشفت في تقرير رسمي أن أكثر من 200 جهة ومؤسسة حكومية لا تقوم بتوريد إيراداتها المالية إلى حسابات الدولة في البنك المركزي بعدن.
هذا الكشف، الذي تزامن نشره مطلع العام الجاري مع فترة رئاسة أحمد عوض بن مبارك لمجلس الوزراء، مثَّل وثيقة إدانة كاملة تكشف عن شبكة فساد مؤسسية موازية تُدار من داخل أجهزة الدولة نفسها لصالح كيانات وأطراف سياسية منضوية في إطار الشرعية، بما يُهدد سيادتها المالية واستقرارها الاقتصادي.
وضمن أخطر ما جاء في التقرير هو ما يتعلق بملف ميناء المخا، الذي وصفته الهيئة بأنه نموذج للسيطرة العسكرية غير الشرعية على المؤسسات الإيرادية.
فقد أكّد التقرير أن عائدات الميناء لا تُورد إلى البنك المركزي بعدن، كما أن القوات المسيطرة عليه لا تتبع رسميًا لا لوزارة الدفاع ولا لوزارة الداخلية، وإنما تتلقى تمويلاً شهريا من الإمارات العربية المتحدة ما يضع علامات استفهام حول ولاءها الوطني وبالتالي تنفيذها للتوجيهات الحكومية.
وهذا الوضع، وفق الهيئة، لا يمثل فقط تجاوزًا إداريًا بقدر ما هو خلل بنيوي في بنية الدولة، إذ تُدار مؤسسة إيرادية سيادية خارج النظام المالي والرقابي، بما يشكل سابقة خطيرة على المستويين القانوني والسياسي ويتطلب مراجعة شاملة لكل الآليات الإدارية.
سلطة الجبايات
بالتوازي مع تسرب الإيرادات الرسمية، تتفشى في المحافظات الجنوبية ظاهرة الجبايات غير الرسمية التي تدر مليارات الريالات يوميا لصالح جهات غير خاضعة لأي رقابة حكومية.
ووفقًا لتحليل رقمي نشره الصحفي فتحي بن لزرق، فإن 98 نقطة جباية كبيرة وصغيرة تنتشر على الطرق والمنافذ التجارية في محافظات عدن وشبوة والضالع وحضرموت.
وتُقدّر الإيرادات اليومية لهذه النقاط بنحو 2.6 مليار ريال يوميا، أي ما يعادل 947 مليار ريال سنويا، وهي طبعاً أموال تذهب لخزائن قيادات ونافذين لا تدخل إلى خزينة الدولة مطلقًا.
وللمقارنة، تبلغ رواتب موظفي الدولة نحو 36 مليار ريال شهريا، ما يعني أن هذه الجبايات وحدها يمكن أن تغطي الرواتب وتحقق فائضا يصل إلى 41 مليار ريال شهريا لو تم توريدها إلى البنك المركزي، بحسب بن لزرق.
لكن ما يحدث في الواقع هو العكس تماما، حيث تُحوَّل هذه الأموال إلى شبكات مالية محلية نافذة تموّل نفسها ذاتيا، وتفرض سلطة أمر واقع على الأرض، بينما تغرق الدولة في عجزها المالي وتستمر أزمة الرواتب والخدمات المتوقفة منذ أربعة أشهر بلا حلول.
في حين تشير مصادر حكومية إلى أن الموازنة الفعلية لأجور ومرتبات الموظفين في المحافظات والمناطق المحررة تتجاوز 90 مليار ريال شهريًا، مقابل 25 مليار إجمالي الإيرادات المحصلة من الجمارك والضرائب.
ضعف القرار السياسي
يؤكد الصحفي الاقتصادي وفيق صالح أن هذا الوضع يشكل اختلالا هيكليا خطيرا في المالية العامة للدولة، حيث أدى تشتت الموارد وعدم توريد الإيرادات إلى عجز مالي خانق.
وفي حديثه لـ"المجهر" يقول صالح، إن الحكومة عاجزة للشهر الرابع على التوالي عن دفع رواتب الموظفين أو الإيفاء بالتزاماتها تجاه الخدمات الأساسية، ما يعني أن الفجوة بين الإيرادات والنفقات تتسع بوتيرة غير مسبوقة.
وتتحمل الحكومة جزءًا كبيرًا من المسؤولية تجاه استمرار هذه الفجوة، بحسب وفيق الذي يرى أن الحل يبدأ من استعادة السيطرة على كامل الموارد المحلية واستئناف تصدير النفط والغاز، باعتبارهما المصدرين الرئيسيين للنقد الأجنبي الذي يغذي البنك المركزي.
ويحذر صالح من أن استمرار توقف التصدير وتشتت الإيرادات الداخلية يعني توسّع فجوة ميزان المدفوعات وتدهور سعر العملة الوطنية، الأمر الذي يضغط بشدة على المالية العامة وعلى المستوى المعيشي للمواطنين.
ولا يتوقف الخلل عند الجانب المالي فقط، بل يمتد إلى مستوى القرار السياسي نفسه، وبحسب وفيق صالح، فإن عدم وجود وحدة قرار داخل مجلس القيادة الرئاسي يمثل العقبة الكبرى أمام أي خطة إصلاح مالي حقيقية.
كما أن غياب التنسيق والتفاهم داخل المجلس جعل الحكومة تفقد قدرتها على إدارة الملف الاقتصادي بفاعلية، رغم أن الدستور يمنحها المسؤولية الكاملة عن تحصيل الإيرادات ودفع الرواتب وتحقيق الاستقرار المالي.
ويشير صالح في ختام حديثه، إلى أن الحكومة لم تُظهر شفافية كافية في كشف مواطن الخلل أو الإعلان عن الجهات المعرقلة لعملية الإصلاح، وهو ما عمّق أزمة الثقة بين الدولة والمواطنين.
انعكاسات اقتصادية
تكشف الأرقام الواردة أن الدولة تعاني من عجز مزمن في دفع رواتبها، بينما تُهدر المليارات يوميًا خارج النظام المالي الرسمي، ومع غياب الرقابة المالية الفعّالة، تتحول هذه الأموال إلى قنوات تمويل غير رسمية تغذي الفساد وتُكرّس اقتصاد الظل، ما يعوق أي جهود إصلاح أو استقرار نقدي.
والغريب في الأمر، أنه ورغم خطورة هذه الخروقات، لم يصدر أي بيان رسمي من الحكومة أو البنك المركزي يوضح نتائج التحقيقات أو الإجراءات المتخذة بحق المخالفين.
والآن بعد أن بات ملف المؤسسات المخالفة في عهدة النائب العام بعدن، وسط صمت حكومي مطبق يثير تساؤلات حول مدى جدية المتابعة، وقدرة الدولة على فرض سيادتها على مواردها واستعادة الأموال المنهوبة.
ويخشى مراقبون من أن هذا الصمت يعكس تواطؤًا سياسيًا أو عجزًا مؤسسيًا عن مواجهة نفوذ السلطة الموازية التي تغلغلت داخل جسد المؤسسات العامة، محولة الاقتصاد الوطني إلى شبكة مصالح ضيقة تتقاسم النفوذ والمال على حساب المواطنين.
ويؤكد الوضع في اليمن، أن الأزمة المالية ليست أزمة موارد، بل أزمة إدارة وشفافية ومسؤولية، حيث أن المؤسسات التي يفترض أن تكون عماد الاقتصاد الوطني تحوّلت إلى أدوات لتغذية الفساد، في حين فشلت الحكومة في فرض النظام المالي الموحد وإخضاع الإيرادات للرقابة الرسمية.
والحقيقة أن فتح هذه الملفات، كما تقول الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد، لا يجب أن يبقى مجرد خطوة شكلية، وإنما يجب أن يمثل الاختبار الحقيقي لإرادة الإصلاح الاقتصادي والسياسي.
فمن دون محاسبة صارمة واستعادة الأموال المنهوبة ووضع نهاية لتعدد مراكز النفوذ المالي، سيبقى الاقتصاد اليمني رهينة لفوضى الفساد، وستظل الدولة غائبة في وجه نفوذ موازٍ يبتلع ما تبقى من موارد الشعب.
تابع المجهر نت على X