«المظلومية اليهودية» وقتل الصحافيين

يوم الأحد الماضي اغتالت قوات الاحتلال الإسرائيلي أنس الشريف ومحمد قريقع وأربعة صحافيين ومصورين آخرين في قطاع غزة. الحكومة في غزة قالت إن عدد الصحافيين الذين قتلهم جيش الاحتلال في القطاع بلغ 238 صحافياً.

العدد الكبير – قياساً لفترة الحرب ولعدد السكان ـ يؤهل إسرائيل لتحتل المرتبة الأولى في قتل الصحافيين في التاريخ، إذ لم يسبق أن قتل هذا العدد من الصحافيين خلال مثل تلك الفترة، وفي مثل تلك الظروف.

يحلو لبعض وسائل الإعلام الغربية أن تتحدث عن عمليات قتل الصحافيين، على أساس أنها حوادث عرضية، بسبب ظروف عملهم في الميدان، غير أن بيانات قيادة الجيش الإسرائيلي لم تبق لهؤلاء الاعتذاريين أي لغة يبررون بها ما يجري، بعد أن أعلن جيش الاحتلال أنه استهدف «الإرهابي أنس الشريف».

لا يحتاج المرء إلى عظيم ذكاء ليقول إن الهدف من قتل الصحافيين يتمثل في محاولات إسرائيل طمس الحقيقة، خاصة وأن حكومة الاحتلال برئاسة بنيامين نتنياهو صادقت مؤخراً على إعادة احتلال قطاع غزة، وربما جاء اغتيال هؤلاء الصحافيين، في سياق الاستعدادات لتنفيذ جرائم حرب، مع اعتزام تلك الحكومة إعادة احتلال القطاع كاملاً.

ومع ارتباط جريمة اغتيال الصحافيين بمحاولات إسرائيل طمس آثار الجريمة، إلا أن هذه الجريمة مرتبطة بشكل جوهري بالاستراتيجية الإسرائيلية المتعلقة بالحفاظ على الصورة النمطية لـ«اليهودي المضطهد» في المخيال العالمي بشكل عام، والغربي بشكل خاص. إذ أنه لكي يستمر الدعم الغربي لدولة الاحتلال الإسرائيلي، ولكي يستمر التغاضي العالمي عن جرائم الاحتلال، لا بد من الحفاظ على صورة «الإسرائيلي الضحية» أو «الإسرائيلي المظلوم» أو «الإسرائيلي المضطهد»، وهي الصور التي تعد نُسَخاً مُحدَّثة من الصورة النمطية لـ«اليهودي المضطهد»، حيث تعمل آلة الدعاية الإسرائيلية على «احتكار المظلومية»، لكي يستمر التعتيم على جرائمها، ولكي يستمر الدعم القادم إليها من الغرب والولايات المتحدة.

ومن أجل ألّا تتكرس صورة أخرى عن مظلومية حقيقية اقترفها «المظلوم التقليدي» الناجي من الهولوكوست، ولكي لا تأخذ المظلومية الفلسطينية مكانها في الوجدان العالمي، مهددة «احتكار المظلومية» اليهودية كان لا بد من استهداف كل من يحاول تسليط الضوء على المظلومية الحية التي يعيشها الفلسطينيون، كل لحظة في عموم الأراضي الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص ما يواجهه الفلسطينيون في قطاع غزة من جرائم القتل والتهجير القسري والتطهير العرقي والتجويع، وهي الجرائم التي يؤرق توثيقُها المؤسسةَ العسكرية الإسرائيلية، لأنها تشكل دليلاً قاطعاً، ليس على وجود مظلومية فلسطينية وحسب، ولكن على أن «المظلومية اليهودية» التقليدية أصبحت وسيلة للتغطية على مظلومية تقترفها الحكومة الإسرائيلية التي تعد واحدة من أكثر الحكومات تطرفاً ووحشية، وانتهاكاً لحقوق الإنسان.

من هنا يمكن فهم عمليات الاستهداف المنظم التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي للصحافيين في قطاع غزة، حيث لم يعد الأمر مجرد سقوط صحافيين ضمن عمليات الجيش، بسبب وجودهم – عرضاً – ضمن العمليات العسكرية، كما يحلو للدعاية الإسرائيلية أن تبرر، بل تعدت المسألة ذلك إلى محاولة واضحة للتعتيم على جرائم الاحتلال في القطاع، بهدف نفي وجود أية سردية لمظلومية فلسطينية تزاحم «المظلومية اليهودية»، الأمر الذي يمكن ـ حسب المخاوف الإسرائيلية ـ أن يهدد الصورة النمطية لإسرائيل والإسرائيليين في الوعي الجمعي السياسي والثقافي والأكاديمي الغربي.

يذهب المؤرخ اليهودي سالو بارون إلى أن تصوير التاريخ اليهودي على أساس أنه «تاريخ من الدماء والدموع» فكرة لا يمكن تعميمها، لأن يهود الشرق الأوسط عاشوا ظروفاً جيدة نسبياً، ويرجع بارون إصرار المؤسسة الرسمية الإسرائيلية على تكريس «المظلومية اليهودية»، بأنه يأتي في سياق محاولات إسرائيل التغطية على «خطيئتها الأصلية» المتمثلة في «النكبة الفلسطينية».

وإذا كانت سردية المظلومية اليهودية مهمة لدولة الاحتلال، للتغطية على جرائم تلك الدولة في حق الفلسطينيين، وإذا كانت تلك السردية مفيدة لاستمرار الدعم الغربي فإن تلك السردية مهمة كذلك لكي تظل نار الحقد والغضب مشتعلة في القلوب، مع توجيه تلك النار وجهة تتناسب مع سياسات دولة الاحتلال وداعميها، إذ أن حضور «حقد المظلومية» لدى الوعي الجمعي داخل إسرائيل يساعد على تكريس وحدة الشعب، تحت عناوين «الدموع والدماء والاضطهاد والمظلومية»، وفقاً لخطط منظري المظلومية اليهودية داخل وخارج إسرائيل.

وفوق ذلك، يمكن لسردية المظلومية هذه أن تكشف لنا عن الأسباب الدفينة وراء العنف الوحشي الذي يمارسه جنود الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة، حيث إن تحول الجندي الإسرائيلي إلى كائن سادي، متعطش للدماء، يعشق مشاهد التعذيب والاضطهاد، هذا التحول والنزوع الإجرامي لدى الجندي الإسرائيلي يجد تفسيره في الضخ المدروس لسرديات المظلومية التي يبدو أن هذا الجندي ينطلق منها، أثناء اقترافه لجرائمه، متمثلاً تاريخاً من المظلومية الحقيقية والافتراضية، وهو تمثل في غير محله، إذ أن السياق التاريخي والجغرافي لتلك المظلومية اليهودية لا ينطبق على فلسطين والفلسطينيين، ولا على العرب والمسلمين، بشكل عام.

وعلى الرغم من أن سياق «المظلومية اليهودية» هو سياق غربي لا شرقي، وعلى الرغم من أن اليهود في الشرق العربي والإسلامي لم يتعرضوا لما تعرض له نظراؤهم في الغرب، إلا أن المؤسسات الرسمية في إسرائيل ـ بمستوياتها المختلفة ـ تحاول أن تعيد كتابة التاريخ، بشكل يجعل العرب والفلسطينيين شركاء في وجود «المظلومية اليهودية»، في مسعى من تلك المؤسسات لإيجاد تبرير سياسي ووجداني للجرائم الإسرائيلية المرتكبة في حق الفلسطينيين الذين يقول إدوارد سعيد إنهم أصبحوا «ضحية الضحية»، على اعتبار أن الفلسطيني ضحية لليهودي «الغربي» الذي هو بدوره ضحية للنازية الغربية.

وبالعودة إلى بداية المقال يمكن أن نخلص ـ بشكل سهل ـ إلى أن قتل الصحافيين سياسة إسرائيلية واضحة تندرج ضمن استراتيجية أكبر لمنع تكريس أية مظلومية فلسطينية، يمكن أن تزاحم «المظلومية اليهودية»، وهي المظلومية التي تستنزفها إسرائيل بشكل كثيف، مع تداعي دول ومؤسسات دولية معتبرة للعمل على وقف جرائم أصحاب «المظلومية اليهودية» التاريخية في حق أصحاب «المظلومية الفلسطينية» المعاصرة.