حيث اعتادت العقول أن تتلاقى في فضاء المعرفة، بالعاصمة صنعاء ،وحيث كانت جامعة العلوم والتكنولوجيا صرحا أكاديميا يحاكي الطموح اليمني، تحولت هذه الجامعة المرموقة ، في لحظة خاطفة، من مشعل علم إلى ساحة تغذية للتطرف والطائفية، على يد مليشيا لا تؤمن إلا بثقافة السلاح والخطاب الأحادي.
في تحذير شديد اللهجة، جدّدت جامعة العلوم والتكنولوجيا المركز الرئيسي في العاصمة المؤقتة عدن، الأسبوع الماضي، رفضها القاطع لما وصفته بـ"الأكاذيب والمزاعم" المتداولة بشأن إعادة الاعتراف بفروعها الخاضعة لسيطرة مليشيا الح..وثي، مؤكدة أن كل ما يُروّج في هذا السياق "عارٍ عن الصحة جملةً وتفصيلًا"، ولا يعدو كونه محاولة للتضليل والإرباك الأكاديمي للطلاب وأولياء الأمور.
لقد أكدت إدارة الجامعة أنها لا تعترف بأي من مخرجات الفروع الخاضعة للح..وثيين، وأنها تُخلي مسؤوليتها الأكاديمية والقانونية من أي تعاملات أو شهادات صادرة عنها بعد تاريخ نقل المركز الرئيسي.
ولفتت الجامعة في عدن إلى أن الشهادات التي تصدر عن فروع صنعاء والحديدة وإب وتعز (الحوبان) غير معترف بها محليًا أو دوليًا، كونها تصدر من جهات تفتقر للشرعية ولا ترتبط بالمركز الرئيسي في عدن بأي صفة قانونية أو أكاديمية ، فهذه الكيانات تعمل خارج إطار القانون، محذرة الطلاب من الانجرار وراء الشائعات التي تروّج لاعتراف مزعوم بتلك الفروع.
لقد بدأت الحكاية ذات ظلام، حين قررت مليشيا الح..وثي أن الجامعات ،لا الجبهات وحدها ، يجب أن تكون خطوط إمداد لها. فقامت باختطاف رئيس الجامعة الشرعي، وأعقبت الجريمة بتعيين قيادات موالية لها، لا تربطها بالعلم صلة، ولا تحكمها في الإدارة كفاءة. فيما أصبح القرار الأكاديمي بيد أصحاب الولاء، لا أهل الاختصاص.
أي اختُطفت الجامعة، كما اختُطفت البلاد من قبلها.
بمعنى أدق تحولت القاعات إلى ساحات تجنيد، والمناهج إلى أدوات تعبئة، والدورات العلمية إلى تدريبات عسكرية مموهة. ولقد صار الطالب يُؤخذ من كتابه إلى المتراس، يُحمل بشعارات الطائفة أكثر مما يُحمل بمبادئ الفيزياء أو آداب اللغة. ولم تكتفي المليشيا بذلك، بل أقحمت برامجا طائفية دخيلة، لا تمت بصلة للهوية اليمنية الجامعة، بل تمزقها، وتشظي الوعي الجمعي باسم "الولاية" و"المسيرة".
إنه انقلاب على القيم قبل أن يكون انقلابا على القوانين.
فلقد تم تدمير البنية الأكاديمية لواحدة من أهم الجامعات اليمنية، ولم تعد شهاداتها معترفا بها لا محليا ولا دوليا، بعد أن سقطت معايير الجودة في هوة التسييس والابتزاز.
فيما تم تحويل الفضاء الجامعي إلى معرض للأسلحة الإيرانية، وصور القادة الطائفيين، ومشاهد الموت. بينما كان يجب أن يكون المكان محرابا للعلم، صار معتقلا للأفكار الحرة.
طلابٌ وأكاديميون دفعوا ثمن صمت العالم، وتواطؤ بعض الجهات، وصراع لا يعرف الرحمة. ووسط كل هذا، تم العبث بالدرجات العلمية، ومنحت شهادات عليا لكوادر ح..وثية لا تحمل سوى السلاح وبلاغة الخطب. كما ضُربت الضوابط الأكاديمية بعرض الحائط، وانفرط عقد الشفافية والنزاهة، ليُستبدل بولاء سياسي أعمى.
على إن ما تعرضت له جامعة العلوم والتكنولوجيا في صنعاء ليس حدثا عابرا في تاريخ التعليم اليمني، بل هو جريمة مكتملة الأركان في حق الحاضر والمستقبل. فلقد دُمرت أحلام آلاف الطلبة، وضاعت أعوام من الجهد والتعب، وتحولت المسيرة التعليمية إلى محرقة لأماني شبابٍ كانوا يحلمون بالبحث العلمي لا بحمل البندقية.
وها هي نتائج هذا العبث تطفو على السطح: سحب الاعتراف الدولي من شهادات فروع الجامعة الواقعة تحت سيطرة المليشيا، وضياع الاعتراف المحلي، وتعطل المستقبل الأكاديمي لجيل كامل، تُرك عالقا بين جدران صماء، يحرسها خُطباء لا أساتذة.
والشاهد إن مليشيا الح..وثي تتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا الانهيار الكبير. ليس فقط لأنها انقضت على مؤسسة تعليمية، بل لأنها أسست لثقافة الاستبداد داخل الحرم الجامعي، وشرعنت الكهنوت في فضاء كان، إلى عهد قريب ، رمزا للمدنية والحداثة.
لذلك، فإن الواجب الوطني والأخلاقي يحتم على الجميع، في الداخل والخارج، إعلان موقف واضح وصريح: لا اعتراف بأي شهادات تصدر من تحت سيطرة الح..وثيين، ولا مصداقية لأي مؤسسة تدار بالعقيدة السياسية لا بالمنهج العلمي بل يجب أن يعاد الاعتبار للتعليم في اليمن، وأن تُستعاد الجامعة من خاطفيها، لتعود منارة كما كانت، لا مغارة لمشروع كهنوتي.
وفي زمن الخراب، يبقى العلم هو الأمل الأخير. ومن جامعة العلوم، التي سرقت من أبنائها، يبدأ الطريق نحو استعادة التعليم، واستنهاض الوعي، وكسر القيد. فهذه البلاد لا تستحق إلا النور، والنور يبدأ من الكلمة، من القاعة، من الحقيقة.
تابع المجهر نت على X