( لا تعرف من أين تبدأ الحكاية: من المفخخة التي اغتالت القائد العظيم ثابت جواس...وها هو اليوم، بعد أن فر إلى صنعاء، يظهر من جديد في منطقة الحوبان، لا كفأر هارب، بل كـ"قيادي محترم" في منطقة عسكرية ح...وثية)
..
لا تحتاج لعين ثاقبة لتكتشف أن الدولة في اليمن ، صارت كذبة موسمية، وأن "الوطنية" مجرد شعار مشوه يُرفع وقت الحاجة، ويُحرق بعد الاستعمال.
فها نحن أمام مشهد جديد، مألوف ومريب، بطلُه هذه المرة رجلٌ كان يُشار إليه بالبنان، فإذا به الآن يُحاط بالحبال، لا لبطولاته، بل لاتهامات تفجير واغتيال وخيانة... إنه العميد – أو ما تبقى من لقبه – أمجد خالد.فرحان.
القضاء اليمني، أو بالأصح ما تبقى منه، أصدر حكماً بالإعدام على الرجل، إلى جانب سبعة آخرين، في جريمة تفجير موكب محافظ عدن، وأخرى في مطار المدينة. وفي اليمن، لا يصدر حكم كهذا إلا حين تكون الرؤوس قد تدلت سياسياً قبل أن تُقطع قانونياً.
والمدهش – ولا شيء يدهشنا فعلاً – أن أمجد خالد لم يهبط من السماء، ولم يخرج من جحر في صنعاء.
لقد كان يوماً ما قائداً للواء النقل التابع للحرس الرئاسي، الرجل الذي قاتل في صفوف المقاومة ضد الحوثيين في عدن عام 2015، قبل أن تنقلب البندقية، وينقلب معها التاريخ، والموقع، وحتى الولاء.
لكن، في هذا البلد المعجون بالمفارقات، لا يهم أن تكون قاتلت ال..حوثي، ما دام أنك اليوم متهم بالتعامل معهم. بل لا يهم أن تكون حملت الوطن، إن كان أحد خصومك السياسيين يراك اليوم عبوة مؤقتة يمكن تفجيرها في وجه الطرف الآخر.
والحقيقة؟ الجميع على حق... والجميع على باطل.
بمعنى أدق فإن أمجد خالد، وفق ما أعلنه القضاء، كان يُدير خلايا إرهابية داخل العاصمة المؤقتة عدن. اتُّهِم بتنسيق عمليات اغتيال، وإشراف مباشر على تفجيرات استهدفت شخصيات بارزة، في مقدمتها محافظ عدن. بل أكثر من ذلك، تم الكشف – بالصوت والصورة – عن صلات بينه وبين قيادات ح..وثية. وهنا لا بد من الوقوف: إن صح كل هذا، فالجريمة أفظع من مجرد خيانة عسكرية، إنها خيانة وطنية موصوفة، تسقط عنها كل تبريرات "الخلاف السياسي".
لكن، السؤال الذي يحترق تحت ركام هذا المشهد: أين كانت الدولة حين كانت كل هذه الجرائم تُرتكب؟ هل كانت مشغولة بتلميع القادة أم بتقاسم الغنائم؟ أم أن الرجل كان مجرد "كارت" بيد طرف سياسي، يتم تشغيله حيناً، والتبرؤ منه حيناً آخر؟
طبعا نحن لا نعيش فقط في زمن "تفخيخ المدن"، بل في زمن تفخيخ المفاهيم. حين يصبح القائد العسكري قائدا اشبكة تفجيرات، والسياسي جزءاً من شبكة تواطؤ، والمواطن مجرد "خسارة جانبية" في عملية تصفية الحسابات.
على إن أمجد خالد، الذي بات اليوم يوصف بـ"المخبر"، كان حتى الأمس القريب يستعرض على الشاشات باعتباره أحد "أبطال التحرير"، بل وشغل منصباً حساساً في قلب المؤسسة العسكرية، بينما كانت الخلايا تنشط، والعبوات تنفجر، والضحايا يتساقطون، وتُعقد الصفقات في الظلام.
فمن يحمل القنبلة لا يخون فقط منصبه، بل يخون دم كل شهيد صدق أن التحرير كان يعني حرية، لا أن تُدار عدن من راديو في صنعاء.!
على أن ما نُشر لا يساوي 5% من حجم المأساة، ولا حتى قشرة من رأس الجريمة. فخلف الخبر المتداول، وخلف قاعة المحكمة، ثمة قبور صامتة لا تعرف أسماءها، وثمة دماء مطمورة تحت منازل قائد "لواء النقل" الذي نقلنا جميعاً من حدود المعقول إلى عتبة الرعب.
بل إن أمجد خالد لم يكن مجرد متهم بالإرهاب، قدر ما كان دولة داخل الدولة، نظاماً موازياً لا يعترف بالقانون، بل يكتبه بنفسه.
نتحدث هنا عن مقابر جماعية، حقيقية، تُدفن فيها الأدلة كما تُدفن الضحايا. بل لا تعرف من أين تبدأ الحكاية: من المفخخة التي اغتالت القائد العظيم ثابت جواس، أم من النساء اللواتي حولهن إلى أدوات ترويج للمخدرات، يوزعهن "بالمجان"، لتسهيل التجارة السوداء التي أصبحت تمويله السياسي الفعلي؟
نعم..منزل أمجد لم يكن بيت قائد عسكري، بل ثكنة موت وعبور للسموم. وكل من تواطأ معه، يعرف أن الرجل لم يكن يعمل في الظل، بل تحت إضاءة كثيفة من الرضا الإقليمي والتواطؤ المحلي. سلطات، دول، أجهزة، بل وحتى منابر إعلامية... بعضها صامت، وبعضها شريك.
وها هو اليوم، بعد أن فر إلى صنعاء، يظهر من جديد في منطقة الحوبان، لا كفأر هارب، بل كـ"قيادي محترم" في منطقة عسكرية ح...وثية. كأنه لم يُغرق عدن بالدم والدموع، ولم يحول شوارعها إلى مسرح للرعب. بل كأنه لم يغدر بجواس، الرمز الذي عجزت الحروب عن كسره، لكنه وقع في ظهره، بتخطيط ممن كانت عدن تسميه يوماً "قائد التحرير".
فما الذي يجري إذن؟ كيف يمكن لمجرم بهذا الحجم أن يعيد تدوير نفسه في المشهد العسكري من جديد؟ الإجابة لا تُحزن فقط، بل تُبكي بحجم وطن: لأن المال يتكلم، والسلاح يفاوض، والسلطة تُعمي.
فيما الأموال التي يُنفقها أمجد اليوم ليست من ميراث أهله، بل من تجارة الموت، ومن شبكات تبييض أموال تتنقل بين عواصم "الأشقاء". ومن المؤسف – بل من المعيب – أن بعض تلك التحويلات تمر تحت غطاء من "سلطنة الحياد"، التي طالما تغنت بالسلام، بينما يتسلل عبرها تمويل الخراب.
نعم، لقد وصلنا إلى مرحلة يصبح فيها القاتل جزءا من المشهد العسكري مرة أخرى، والمخدرات وسيلة لإدارة الولاءات، والقبر ليس نهاية الجريمة بل بدايتها. مرحلة يصبح فيها اغتيال رجل كالشهيد جواس تذكرة عبور إلى نادي "أصدقاء الح..وثي"، لا جريمة وطنية تهز الضمير.
والسؤال: كم من أمجد خالد آخر يتجول بيننا؟ كم من قائد يخفي تحت بزته خريطة لمقابر؟ كم من إعلامي يعرف الحقيقة ويصمت؟ وكم من دولة تمد يدها لأعدائنا ثم تتظاهر بالقلق على استقرار اليمن؟
لذلك آن لنا أن نُصغي إلى صراخ القبور، إلى بكاء المدن التي اختنقت وهي تبحث عن ضابط أمن حقيقي، لا مقاول موت. بل آن لنا أن نوقف هذا العبث المقدس باسم "التوازن السياسي" لأن العدل المؤجل خيانة، والصمت عن الجريمة مشاركة.
لكن دعونا لا نُحمّله وحده كل شيء. فالرجل، على ما يبدو، لم يكن يعمل منفرداً. من مكنه؟ من غطاه؟ من دافع عنه حين كانت الدلائل تتراكم؟ أولئك الذين كانوا يرون فيه سلاحاً ضد الانتقالي، لا يرونه الآن سوى كابوس في "أرشفهم السياسي".
وكم هو مثير للغثيان، أن نرى اليوم بعض الأصوات التي كانت تتغنى بأمجد، وقد انزوت بصمت مُخزٍ، أو تحاول غسل أيديها من دمه كما يُغسل الفشل من أرشيف الحكومة. واعني إنها سياسة "لم نكن نعلم"، تلك العبارة القذرة التي تُغتال بها الحقيقة مراراً وتكراراً.
وفي المقابل، لا بد من التنويه بالشرفاء من رجال الأمن، أمثال القائد مصلح الذرحاني، الذي قاد الجهود لكشف هذه الشبكة الإرهابية. رجال لا تُحرّكهم النكاية السياسية، ولا يخلطون بين أمن الدولة وأمزجة الفصائل.
لكن، هل يكفي أن يُحاكم أمجد خالد؟ أم أننا بحاجة لمحاكمة المنظومة التي سمحت له أن يكون؟ المنظومة التي تُقسّم الوطن إلى مربعات أمنية، ومراكز نفوذ، وتحالفات مظللة، ثم تتساءل: لماذا تنفجر المدن؟
نعم، القرار الرئاسي بعزل خالد متأخر، لكنه – ولو رمزياً – يضع إصبعاً على جرح نازف: هناك قادة في الجيش ليسوا سوى واجهات لتحالفات خفية، تديرها أجهزة وولاءات تتجاوز الجغرافيا اليمنية بكثير.
وإذ كانت عدن قد نجت من صواريخ ال..حوثي، فإنها اليوم تحتاج أن تنجو من خناجر أبنائها. وكل من صمت، أو غطى، أو حرض، أو مول... سيُسجل عليه التاريخ، لا في صفحات السياسيين، بل في شواهد القبور التي لا تكذب.
ولعل الوقت قد حان لنقولها بوضوح لا يقبل التأويل: الوطن لا يُباع في كيس مخدرات، ولا يُدار من غرفة تعذيب. ومن خان جواس، خان كل يمني... وإن ارتدى الزي العسكري.
الخلاصة؟ لا كرامة لوطن يُحكم بالتسجيلات، ولا أمان لدولة تُدار من كواليس الثأر السياسي. فيما المطلوب اليوم ليس فقط تنفيذ الأحكام، بل إعادة تعريف من هو القائد، ومن هو العدو، ومن هو المواطن الذي دفع – وسيدفع – فاتورة صمت الجميع.
كذلك فإن العدالة الحقيقية لا تُنفذ على فرد فقط، بل على كل منظومة أنتجته. وعلى اليمنيين أن يختاروا: إما بناء دولة يحكمها القانون، أو البقاء في دوامة يحكمها منطق "كلنا خونة... ما لم نكن في السلطة".
تابع المجهر نت على X