هناك رجال يشبهون النجوم. لا تشعر بضجيجهم في نهار الحياة الصاخب، لكنك تعرف قيمتهم حين يحل الظلام. يضيئون لك الطريق بهدوء، ثم يغيبون مع أول خيط من خيوط الفجر، تاركين خلفهم نوراً لا ينطفئ. والشيخ المهندس محمد المقرمي كان نجماً من هذا الطراز.
حين يأتيك خبر رحيل رجل في مكة، فجراً، وهو يتأهب للقاء ربه، تدرك أنك لا تقرأ خبراً، بل تشهد كرامة. لا تبكي فقداً، بل تغبط حسن الختام. هكذا رحل “مهندس القلوب”، وكأن السماء استردت واحداً من أنوارها التي أودعتها الأرض. رحل كما عاش: بهدوء، بعمق، وبأثرٍ يشبه صدى يتردد في أعماق الروح: الله… يدبر الأمر.
مع نهاية دراستي الإعدادية، بدأت رحلتي في الاستماع للمحاضرين والخطباء. حضرت واستمعت وشاهدت الآلاف. تعلقت ببعضهم، وترك بعضهم في نفسي أثراً. لكن، لم يترك أحد في نفسي أثراً مثل محمد المقرمي.
كان لقائي به مصادفة، أو قل تدبيراً من اللطيف الخبير. في ليلة رمضانية منذ ثلاث سنوات، وقع بين يدي مقطع فيديو له بالمصادفة. لم أبحث عنه، هو الذي وجدني. كان يتحدث… لا، لم يكن يتحدث، كان يهمس في أذني، يخاطبني أنا، وكأنه يعرفني منذ الأزل. كان يتكلم عني، عن حيرتي، عن أسئلتي التي لم أجرؤ أن أطرحها.
منذ تلك الليلة، وأنا أبحث عنه، ألاحق دروسه ومحاضراته. وجدت فيه ضالتي. وجدت فيه الداعية الذي لا يصرخ من فوق المنابر، بل يربت على كتف روحك. وجدت فيه المفكر الذي لا يعقد لك المسائل، بل يبسطها لك بأسلوبه الذي أسموه “السهل الممتنع”.
يا لها من مفارقة! رجل كانت مهنته أن يرفع الأجسام الثقيلة في الهواء، مهندس طيران يحسب المعادلات والضغط الجوي، فأصبحت رسالته أن يرفع الأرواح الخفيفة إلى السماء. كان يعرف أسرار المعادن، فاكتشف سر الكلمة الطيبة التي تفتح مغاليق النفوس. من هندسة الطيران إلى “هندسة القلوب”.
كان طبيباً للقلوب، يصف لك دواءً من آيات القرآن، بجرعات من اليقين وحسن الظن بالله. لم يكن يعدد لك المحرمات، كان يريك جمال الطاعات. لم يكن يخوفك من النار، كان يشوقك إلى الجنة.
قبل رحيله بأيام، ظهر في بودكاست بعنوان “من الهندسة إلى التدبر”. يا الله! كأنه كان يلخص رحلته كلها في تلك الساعة. كأنه كان يودعنا، ويقول لنا: هذا هو الطريق، من عالم الأرقام إلى عالم الأنوار.
رحل الشيخ محمد المقرمي، لكنه لم يرحل. ترك فينا أثراً لا يمحى. ترك فينا منهجاً في تدبر القرآن. ترك فينا حباً لله لا يهتز. ترك فينا يقيناً بأن الله يدبر الأمر كله.
رحمك الله يا مهندس القلوب. لقد حلقت بنا في سماء الأرواح، واليوم حلقت روحك إلى بارئها. وإنا على فراقك لمحزونون، ولكننا على يقين بأن الأثر الذي تركته باقٍ، وأن النور الذي أشعلته لن ينطفئ.
وتبقى الفكرة: أن قيمة الإنسان ليست بما عاش، بل بما أحيا في نفوس الآخرين.
تابع المجهر نت على X