من صنعاء إلى عدن: ثورتان وشعب ووطن

ونحن نعيش احتفالات اليمنيين بذكرى الثورتين المباركتين 26سبتمبر و 14أكتوبر، فمن تمام الحكمة والإنصاف أن تدرك الأجيال أنَّه لا يمكن النظر إلى الثورتين كحدثين تاريخيين منفصلين، بل باعتبارهما يمثّلان جناحي النضال اليمني، وتعبّران عن تطلعات شعب واحد نحو التحرر من كافة أشكال القهر والتخلف، وهذا ما جعل معركة اليمنيين واحدة، وإن اختلف العدو المباشر في كل شطر، ففي الشمال كان العدو هو النظام الإمامي الكهنوتي المتخلف الذي أغرق البلاد في العزلة والجهل، بينما كان العدو في الجنوب الاستعمار البريطاني وحكم السلاطين والمشيخات المرتبطين به.

 

​لقد أدرك المناضلون الأحرار أنَّ مصير اليمن أن يكون وطناً واحداً وشعباً موحداً، وأن التحرر من الإمامة في صنعاء والاستعمار في عدن هما خطوتان متكاملتان نحو الهدف الأسمى المتمثل في بناء الدولة اليمنية الحديثة والموحدة، وهذا الوعي المشترك هو ما خلق الارتباط العضوي والتكامل بين الثورتين، أضف إلى ذلك أنّ اندلاع ثورة 14أكتوبر بعد عام واحد فقط من إعلان الجمهورية في الشمال لم يكن مجرد مصادفة، بل كان نتيجة مباشرة للتأثير المتبادل والدعم اللوجستي والمعنوي بين الشطرين، وكما شكّلت عدن حاضنة لأحرار سبتمبر، فقد مثّلت تعز قاعدة لانطلاق ثوار أكتوبر.

 

​قبل ثورة 26سبتمبر وخلال مراحل وسنوات النضال المختلفة لإسقاط الإمامة المستبدة، حضرت مدينة عدن كعنصر فاعل، ومع أنَّها كانت تحت الاحتلال البريطاني، إلا أنها شكّلت بؤرة حضارية وفكرية ومتنفساً لأحرار الشمال، واحتضنت حركتهم، وقدّمت لهم الدعم الفكري والمالي لإسقاط النظام الإمامي، وعندما انتصرت ثورة سبتمبر وأُعلنت الجمهورية، تحولت مدن الشمال -لا سيما تعز وصنعاء والبيضاء- على الفور إلى العمق الاستراتيجي لنضال ثوار الجنوب، وأصبحت هذه المدن مراكز للتدريب والإعداد والتنظيم قبل إطلاق شرارة أكتوبر من جبال ردفان، كما قامت حكومة الجمهورية الوليدة بتقديم الغطاء السياسي لثوار الجنوب، وعيّنت أول رئيس للجنوب بعد الاستقلال (قحطان الشعبي) وزيراً لشؤون الوحدة في حكومتها، تأكيداً على ارتباط مشروع النضال وواحديته.

 

​كان الهدف المعلن لثورة سبتمبر هو التحرر من الاستبداد وبناء النظام الجمهوري الحديث، وبالتوازي، كانت أهداف ثورة أكتوبر تتمثل في جلاء الاستعمار وإسقاط الحكم السلاطيني، وإعادة توحيد الكيانات الجنوبية كخطوة أولى نحو الوحدة اليمنية الكبرى، وأضحت الوحدة بين الشطرين حلماً مشتركاً وقضية وطنية عادلة، وهو ما كانت نتيجتُه تماهي الأهداف بين الحركتين الثوريتين، فقد اعتبر المناضلون في الشمال أن نضال الجنوب هو استكمال لمشروعهم، ورأى مناضلو الجنوب أن انتصار الشمال هو المدد الذي تحتاجه ثورتهم.

 

​لقد تجاوز هذا التكامل النضالي حدود الدعم اللوجستي والسياسي ليصبح تلاحماً دموياً خطَّ مسارَ الوطن الواحد، فالعديد من أحرار الشمال سالت دماؤهم في مساندة ثوار الجنوب، وشارك الجنوبيون في الدفاع عن الجمهورية في الشمال ضدّ فلول الإمامة التي حاصرت صنعاء في محاولة لاستعادة دولتهم المستبدة، وهذه التضحيات المتبادلة رسّخت في الذاكرة الوطنية أن حدود المعركة لم تكن أبداً جغرافية، بل كانت معركة تاريخ مشترك ومصير ووجود، وهذا الإرث المشترك من الدم والتضحية يفرض على الأجيال الجديدة أن تظلّ تنظر إلى يوم 26سبتمبر و 14أكتوبر كعنوانين لمرحلة تاريخية واحدة، مهَّدتا معاً لإعلان الوطن الموحَّد الذي حلم به جميع المناضلين في الشطرين.

 

دمتم سالمين.