التنافس يزداد حدة على النفوذ في محافظة تعز اليمنية

في الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر الماضي، شهدت مدينة تعز الواقعة إلى الجنوب الغربي لليمن، حادثا مأساويا في طبيعته وأهدافه وتداعياته، فتح المجال على مصراعيه لإعادة النقاش حول التنازع المعلن والخفيّ على النفوذ متعدد الأطراف، في إحدى أهم محافظات البلاد وأكثرها حيوية وكثافة سكانية ودورا مفصليا في تقرير مصير اليمن.

 

بدأت التطورات الأكثر دراماتيكية في تعز باغتيال المديرة التنفيذية لصندوق النظافة في المحافظة افتهان المشهري، بعد تجربة نجاح ملهمة لم تدم طويلا، خاضتها هذه السيدة المغدورة، وجسّدت خلالها المثال الأكثر احتراما لامرأة تقلدت منصبا تنفيذيا وعملت في بيئة محفوفة بالمخاطر وعانت من تدني حاد في الإمكانيات المادية، واستطاعت رغم كل ذلك أن توفر الفرص وتقترب من تحقيق هدف التخلص من مشكلة النفايات التي عانت منها مدينة تعز خلال سنوات الحرب ولا تزال تعاني منها حتى اليوم.

 

استهداف امرأة تحظى بهذا القدر من النجاح والاحترام، لم يكن عشوائيا في طبيعته، رغم أنه نُفذ بواسطة مسلح سبق أن وجه لها تهديدا في العلن، فقد نُفذت الجريمة بطريقة تدل على وجود تخطيط محكم كان خلاله القتلة حريصين على الفتك بحياة الضحية، ما يدفع إلى الاعتقاد بأن من يقف خلف هذا الحادث الإجرامي البشع أراد أن يوفِّرَ سببا قويا لإحداث هزة في البيئة السياسية والاجتماعية لمدينة تعز؛ بما يسمح بتسوية الأرضية السياسية للمحافظة، وتصفية الحسابات تحت غطاء من الصخب والاستنكار الشعبي المبرر، بالنظر إلى المزاج الاجتماعي الذي يرى في استهداف امرأة، أي كانت، عملا مستنكرا ومستقبحا وخارما للرجولة والمروءة.

 

وعلى عكس ما تم التخطيط له، فقد فتح هذا الحادث المأساوي الأبواب المغلقة وأتاح الدخول إلى الغرف المعتمة، وأطلق يد السلطات العسكرية والأمنية لإعادة فرض النظام وملاحقة المطلوبين بعد تراخي قبضة العدالة خلال السنوات القليلة الماضية؛ مما تسبب في تنامي السخط الشعبي نتيجة الإفلات من العقاب ومواصلة بعض المسلحين المنفلتين الاستحواذ على العقارات، خصوصا في مناطق التماس، وحرمان أصحابها من العودة إلى منازلهم.

 

عانت تعز من ظاهرة الانفلات المسلح التي غذَّتها عوامل عدة؛ أهمها الحصار الخانق والاستهداف الإقليمي للمحافظة بدوافع أيديولوجية، وغياب سلطة حازمة، وتفشي الفقر الناجم عن ضآلة المرتبات وصرفها على فترات متباعدة، مقارنة ببقية المحافظات، إلى جانب تأثير سنوات قاسية من الحرب والدماء التي خلفت تشوهات كبيرة في نفسية المقاتلين.

 

الاستغلال السياسي المكشوف لهذا الحادث المأساوي تجلى بوضوح في السرعة التي نشأت خلالها جبهة سياسية من اليساريين والقوميين وبقايا نظام صالح؛ توفرت دلائل عديدة على صلتها العميقة بما يُعرف بالمقاومة الوطنية بقيادة العميد طارق صالح؛ عضو مجلس القيادة الرئاسي الذي يتخذ من مدينة المخا التابعة لمحافظة تعز مقرا له، ويتلقى دعما سخيا من أبو ظبي. وتفاعل الإعلام الإماراتي مع هذه الجبهة بقوة، وكان محتواه صارخا في استهداف ما يسميه "الإخوان المسلمين" وتحميلهم المسؤولية المباشرة عن جريمة الاغتيال.

 

نشطت هذه الجبهة بقوة في إعادة توجيه حادث الاغتيال الأليم، إلى ما يشبه ثورة شعبية للإطاحة بالوضع القائم في مدينة تعز، لكن مسعى كهذا لم يحظ بالزخم المستهدف، رغم الضخ الإعلامي الهائل وتورط العديد من المواقع والناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي بربط ما جرى بالتجمع اليمني للإصلاح والمقاومة الشعبية وقادتها.

 

حققت القوات العسكرية والأمنية نجاحا في الوصول إلى المتهم الرئيس وقتله، وإلقاء القبض على بقية المتهمين، واعتقال العشرات من المتهمين بجرائم قتل وجرائم أخرى، وأنهت عهدا من سطوة المسلحين، ومعه باتت أحياء تعز تقريبا خاضعة لقوة القانون، وهو إنجاز ينبغي على السلطات المحلية أن تبني عليه وتعزز من خلاله أنموذج الدولة والاستقرار والسلام الاجتماعي في المحافظة.

 

على أن أخطر ما تواجهه تعز ليس السلاح المنفلت، بل عمليات الاغتيال التي تحمل بصمات استخبارية واضحة، ومنها الاغتيال بعبوات ناسفة والتي طالت قبل أكثر من شهر العقيد عبد الله النقيب، أحد أشهر الضباط في مكافحة الجريمة والانفلات الأمني ومقارعة العناصر المتطرفة التي تم جلبها إلى مدينة تعز بهدف شيطنة المدينة وشرعنة استباحتها بذرائع مكافحة الإرهاب.

 

يتزامن ذلك مع انعدام اليقين بشأن الغايات النهائية من المنشآت العسكرية الضخمة التي يجري استحداثها في الساحل الغربي لمحافظة تعز وباب المندب التابع للمحافظة، ومنها مطارات عسكرية ومنشآت تخزين، في ظل غياب كامل لحضور السلطة الشرعية، مما يعزز من الاعتقاد بأن هذه المنشآت التي تمولها الإمارات ليست إلا إحدى التجليات المؤسفة للاستثمار الإقليمي السيئ لهشاشة الدولة اليمنية وضعفها، وربط الموقع الجيوسياسي لليمن بأجندات عابرة للحدود وتمس الأمن القومي لليمن والمنطقة.