عشرة دروس يمكن استخلاصها من حال محافظة تعز بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب:

أولًا:المناطق -كتعز تجوزاً-، التي قطعت شوطًا في التمدن، وبدأ الناس فيها يميلون إلى الاحتكام للوسائل القانونية والمدنية، وشرعت في إعادة بناء الهرم الاجتماعي على أسس من الكفاءة والاستحقاق والمهنة، تصبح أكثر اعتمادًا على الدولة من غيرها في تسيير أمورها، والحفاظ على مكتسباتها، والحيلولة دون انتكاسها. لذا، إعادة بناء مؤسسات الدولة فيها مسألة وجودية. 

 

‏‎ثانيًا:هذه البنية الاجتماعية والثقافية تفرز عوامل صراع صحية تقوم على التنافس والاستحقاق. في هذا السياق، يمكن للمرأة أن تشغل موقعًا رياديًا، ويمكن قلب الهرم الاجتماعي وذوبان الطبقات الدنيا، وخلق شروط حقيقية للنهوض. لكن هذه الصيغة، وفي حال اندلاع صراع أهلي أو حرب، يمكن أن تنزلق إلى الفوضى سريعًا إذا غابت إدارة فعالة تعيد ضبط الإيقاع المدني. إذ إن غياب أدوات الدولة — حتى وإن كانت مشوهة وقائمة على التغلب — يفرغ المجتمع من قدرته على كبح الجريمة، ويجعل المدينة أكثر هشاشة. في فضاء اجتماعي كهذا، تصبح الجريمة أكثر عماءً، وقد تطال النساء والأطفال، وتظهر لعنة المدينة الحديثة ؛ أنماط من الجرائم البشعة والجنح والسرقات والاعتداءات الجنسية ؛ فالغريزة حين تنفلت دون كابح، تضرب المدينة بلعنة الانهيار الأخلاقي والاجتماعي.

‏‎

ثالثًا: العلاقة بين القبيلة والدولة ليست عكسية وبسيطة، بل تتسم بتعقيد كبير. فعند تراجع الدولة، حتى وإن كانت ضعيفة وفاسدة، لا تعود القبيلة إلى صيغتها التقليدية، بل يظهر شكل مشوّه يجمع بين أسوأ ما في انحرافات الدولة وضعف القبيلة. إنه خليط من الفساد والعنف والعصبية غير المنضبطة.

 

‏‎رابعًا: لا يمكن إنكار أهمية الأحزاب في الحياة اليمنية، فهي جزء من الهوية الوطنية والفردية. لكن في تعز، تلعب الأحزاب أدوارًا سلبية بحكم بنيتها المشوهة وتقلبها بين شره السلطة وانتهازية الموقف الاجتماعي. يمكن البرهنة على ذلك بسهولة من خلال اختلالها التنظيمي، وانسداد المصعد الاجتماعي داخلها، واحتكار القرار من قبل النخب المؤسسة، والقطيعة بين الأجيال. لقد تحولت الأحزاب إلى ما يشبه "القبيلة الحديثة"، ولم تعد رافعة للمجتمع المدني، بل عصبية جديدة تُمارس الحماية والفساد باسم الولاء الحزبي.

‏‎

خامسًا: لا توجد منطقة في اليمن بمنأى عن العصبيات. ويجب التخلي عن الوهم القائل إن منطقة ما خالية من العصبية بينما أخرى غارقة فيها.

 

‏‎ظل نظام التغلب والعصبية الجهوية يحافظ ويرعى العصبيات ويصادم بينها لخدمة سلطته. 

كان اعلى منصب في مؤتمر تعز اقل اعضاء هذا الحزب في المحافظة تأهيلا علمياً. 

‏‎في تعز، دفعت الحرب المجتمع نحو أشكال تضامن اجتماعي جديدة باسم الدفاع عن المدينة، لكن فساد الأحزاب وعجزها عن تمثيل المجتمع مدنيًا، أديا إلى بروز عصبيات مناطقية، وفّرت بيئة مناسبة لاحتراب داخلي، وعرقلت تشكيل جبهة موحدة لمواجهة العدوان الحوثي.

‏‎

سادسًا: المناطق التي نشأت على الامتثال للحكم المركزي الصارم، غالبًا ما كان مشبعاً بعصبيات مذهبية أو مناطقية، طورت هذه المناطق ذهنية خضوع مزمنة، جعلتها عاجزة عن إدارة شؤونها حتى عند توفر الفرصة. وتعز، في هذا السياق، لا تزال تبحث عن "راعٍ خارجي" — محليًا كان أو إقليميًا أو دوليًا — لتتبع قراراته. رغم ان فيها كفاءات فنية وعلميّة عالية، لكنها تفتقر إلى القدرة على القيادة والمبادرة، وتنتظر الأوامر بدلًا من صناعتها.

‏‎

سابعًا: انطلاقًا مما سبق، فإن المهمة الأساسية للأجيال القادمة لا تكمن فقط في اكتساب الكفاءات، بل في التدرب على إدارة الذات، وإنتاج قيادة حقيقية نابعة من الحرية والمسؤولية الفردية، بعيدًا عن منطق الخضوع والتبعية.

‏‎

ثامنًا: صحيح أن المقاومة تقتضي تعبئة شاملة، خاصة في ظل سياق معقد لا يسمح بترتيب الصفوف بدقة. وهذا يجعل المقاومة تبتلع في داخلها طيفًا واسعًا من الأفراد المتحمسين دون العناية بتاريخهم الاجرامي لانه ينخرطون في اطار عصبوي بكفالة اجتماعية جماعية وليس فردية. لكن إن لم تُؤسَّس هذه المقاومة على منظومة قيم واضحة تصهر الأفراد في قالب أخلاقي جديد يذيب العصبيات والنزعات الإجرامية، فإنها تتحول إلى عبء. في تعز، تحولت المقاومة إلى بنى مؤسسية تحمل أسماء تنظيمية كـ"الجيش" و"الأمن" و"الألوية"، لكنها لم تُبنَ على قيم ضابطة بما يكفي لضمان الانضباط، واحترام الحقوق، والالتزام بالقانون. ربما لأن هذه التشكيلات لم تكن دمجًا حقيقيًا، بل غطاءً إداريًا لمكونات جهوية عصية على التفكيك وإعادة التشكيل. وهذا ما جعل غياب المرجعية الأخلاقية والقانونية في هذه المؤسسات نقطة ضعف قاتلة في التجربة.

ويطرح الاسئلة هو مسألة إعادة بناء الجيش والامن في اليمن برمته ودمج مختلف التشكيلات العسكرية. 

‏‎

تاسعًا: لا يمكن اختزال التضحيات إلى شعارات جوفاء، كما تفعل بعض الأحزاب والجماعات التي تحاول السيطرة على المناطق باعتبارها "ملكًا خاصًا". هذه الجماعات تخون المبادئ التي قامت عليها عندما تراوغ الناس وتدّعي تمثيلهم زورًا. في تعز، لا توجد نقطة تواصل واضحة، ولا أحد يعرف من هو المسؤول الفعلي. هناك قوى حقيقية تدفع بواجهات كرتونية إلى المقدمة، وهذه الشخصيات غير قابلة للمحاسبة، ما يزيد من الإرباك ويعمّق الفراغ القيادي.

‏‎

عاشرًا: في الوضع الراهن الذي تعيشه تعز، حيث الجريمة تتخذ طابعًا جهويًا وتفلت من أي إطار مؤسسي، فإن المسؤولية تقع على عاتق كل فرد يحاول التبرؤ من العصبية لمجرد أنها لم تعد تحقق له فائدة شخصية. إن الحد الأدنى من المسؤولية الاجتماعية يقتضي أن تتضافر الجهود — ولو على نحو تقليدي — لكبح الجريمة، وبناء أشكال من التضامن المجتمعي تعيد الاعتبار للقيم والمصالح المشتركة.