فجأة وبصورة عنيفة ومؤثرة، اندلعت احتجاجات شعبية في محافظة حضرموت الواقعة جنوب شرق اليمن، احتجاجا على التردي الكبير في مستوى المعيشة والانهيار المخيف للعملة الوطنية الذي هوى بها إلى مستويات قياسية؛ انعكست على حالة من العجز العام عن تلبية الاحتياجات المعيشية للناس، قبل أن يستعيد الريال بعض عافيته بتأثير هذه الاحتجاجات، التي تغذت من مجتمعات المدن المعروفة بميلها إلى السلم والسكون والانسحاب من الحياة العامة.
تزامن ذلك مع التزايد الملحوظ في تداعي الأطراف الإقليمية والدولية إلى استثمار البيئة الجيوسياسية المضطربة في اليمن، لخلق مجال نفوذ حيوي لها في هذا البلد، وبمستويات متفاوتة. وقد برز تأثير الأطراف الإقليمية والدولية في توجيه مسار النشاط العسكري للحوثيين في البحر الأحمر، فيما عكست التطورات الأخيرة في محافظة حضرموت، تأثير القوى الإقليمية، الذي أدى إلى تخليق واعتماد قوى جديدة قبلية ومدنية؛ على رأسها حلف قبائل حضرموت، حيث انتهى به المطاف إلى العمل في المحافظة بمباركة سعودية، بعد أن كان يتبنى مواقف مناوئة لها طيلة الفترة الماضية.
تنقسم حضرموت بسبب مساحتها الشاسعة إلى قسمين إداريين هما: حضرموت الساحل وفيه مدن رئيسية عديدة أهمها المكلا والشحر وغيل باوزير، وحضرموت الوادي وفيه مدن رئيسية عديدة أهمها سيئون وتريم وشبام. وقد أفرزت التطورات السياسية والأمنية في كل من حضرموت الساحل والوادي خلال أكثر من عقد من الزمان، مجالين متباينين للنفوذ السياسي الخارجي على وجه التحديد، وتخلَّقتْ في إطارهما تعقيدات عديدة وتحالفات ومبادرات تحركها في المجمل أجندات وطموحات خارجية متباينة، ويظهر فيها التنافس واضحا بين كل من السعودية والإمارات وسلطنة عمان. وهذه الأخيرة رغم أنها لا تحتفظ بقواعد مادية وحلفاء واضحين وأدوات راسخة كما هو الحال بالنسبة للسعودية والإمارات، فإنها استطاعت أن تخلط الأوراق التي بسببها تغيرت المقاربات التقليدية للسعودية بصفتها المؤثر الأبرز في محافظة حضرموت.
يتقاسم اليمنيون في حضرموت وفي بقية محافظات البلاد، الهموم والتحديات والتداعيات السيئة المتشابهة للحرب التي لم تُحسم حتى اليوم ولم يُسمح لليمنيين بوضع نهاية مشرفة لها، ولم يظهر في الأفق ما يشير إلى أن اليمنيين على موعد مع سلام مستدام ينبني على أسس قوية وراسخة ولا يكافئ المجرمين والانقلابيين وتجار الحروب، ويتحرر في الوقت نفسه من السرديات العقيمة التي غطت على جريمة تحطيم الدولة اليمنية بتصورات زائفة وقناعات مغلوطة، من أهمها أن الصراع في اليمن يدور بين أطراف سياسية تتغذى من أفكار شيعية وسنية متشددة، وأن الخطر لا يزال يرتبط بنشاط التنظيمات الإرهابية.
يحتل موقعُ حضرموت وحجمها مكانة حاكمة في النطاق الجيوسياسي لليمن، فهي أكبر محافظات البلاد من حيث المساحة، بالإضافة إلى ما تكتنزه من موارد سيادية وخصوصا النفط، إلى جانب إطلالتها الطويلة على خليج عدن، وحدودها البرية الطويلة مع المملكة العربية السعودية.
لهذا يُظهر الجميع حساسية تجاه التحركات والاحتجاجات الشعبية التي لا تتبع غرفة عمليات واضحة، ويزيد من حساسيتها أيضا، أنها يمكن أن تنتج امتدادات لها في بقية المحافظات بالنظر إلى توفر عوامل الانفجار، وهو تطور غير مريح بالنسبة للقوى الإقليمية التي اعتادت التحرك في اليمن وإدارة خلافاتها حول النفوذ على أرضه بأقل التكاليف.
وبتأثير هذه الحساسية جاء ارتفاع قيمة الريال بمثابة مكافأة إجبارية لاحتجاجات حضرموت. وتقف السعودية بكل ثقلها الاقتصادي والمالي وراء التحسن الكبير والمفاجئ في سعر صرف الريال، رغم أن هذا الارتفاع لم يستند إلى تدابير مستدامة، مثل إعادة تصدير النفط والغاز والاستفادة من عوائدهما النقدية الكبيرة من العملة الصعبة، بقدر ما اتكأ ربما على تدابير مرحلية من بينها على الأرجح تعزيز الاحتياطي النقدي، إلى جانب المساهمة في وضع كوابح حقيقية للممارسات النقدية لشركات الصرافة والبنوك، وغيرها من الإصلاحات التي تسبب غيابها في الانهيار المتسارع للريال.
ثمة بيئة اجتماعية جاهزة للانفجار؛ ليس بالطريقة التي شهدتها حضرموت بل بمستويات أكثر خطورة، بما قد تنتجه من خيارات تتجاوز قدرات القوى الخارجية المتحكمة بالمشهد اليمني. ذلك أن حلم تغيير الوقائع السوداوية يهيمن على مخيلة ووجدان معظم اليمنيين، بسبب الضغط الهائل للتداعيات السيئة للحرب.
وكان قسم كبير من اليمنيين قد اعتقد أنه قريبٌ جدا من تحقيق هذا الحلم، وتعاطى بحماس بالغ مع تسريبات تفيد بأن السعودية ستؤمن دعما كافيا لقتال الحوثيين، بعد انحسار موجة الاستهداف الأمريكي للحوثيين الربيع الماضي. غير أن ذلك لم يحدث مما ضاعف من حجم الإحباط في نفوس الناس، فأدركت السعودية أن احتجاجات حضرموت شرارة خطيرة جدا يمكن أن تُشعل المشهد اليمني برمته، فسارعت إلى الأخذ بيد السلطة الشرعية على صعيد حماية الريال، ورفع قيمته بالصورة التي ولدت ارتياحا عاما لدى معظم الناس.
تابع المجهر نت على X