البوري فسيخًا... واللخم "delicacy"

عندما تعلو الجيف ويُدفن الدرّ

في زمنٍ اختلطت فيه المعايير، وأصبحت الموازين تُقلب كما تُقلب الأسماك على موائد التمليح، صرنا نرى العجب.

سمك "البوري"، ذلك الكائن الذي لا يُلفت النظر ولا يُغري طعمه، يتحول فجأة إلى "فسيخ" بعد أن يفسد ويتعفن…

فيرتفع سعره من ثلاثة دولارات إلى خمسة عشر. ليس لأنه أصبح أطعم، بل لأنه صار "منتجًا شعبيًا" موروثًا، مقترنًا بمذاق التعود لا الجودة.

وفي حضرموت، مثال آخر: "اللخم"، سمك القرش الذي لا يحتمل الكثيرون رائحته، يُملح ويُجفف في الشمس، ويُباع بعد فترة كوجبة فاخرة في بعض الموائد.

هذا السمك – كحال الفسيخ – لا يُستساغ في شكله الخام، لكنه بعد أن يُمرر في قنوات التمليح والتجفيف والتغليف الشعبي، يصبح "مرغوبًا".

فماذا تقول لنا هذه الأمثلة البحرية؟

إنها تقول ببساطة: في زمن مختل، قد يعلو الفاسد ويُهمّش الصالح.

فما أكثر "البواري" في حياتنا... أناسٌ لا يُعرف لهم فضل، ولا أثر، ولا بصمة، لكنهم ما إن يدخلوا دهاليز "التحضير الإعلامي" أو شبكات النفوذ والمال،

حتى يُصبحوا "فسيخًا" يلهث وراءه الناس. بل وتُقام لهم الولائم وتُفتَح لهم القاعات وتُعلّق على صدورهم الأوسمة،

رغم أن رائحتهم – مجازًا – تزكم الأنوف.

وفي المقابل، كم من "درّ" دفنته الحياة في عمقها…

عالمٌ، أو مصلحٌ، أو فنانٌ نقي، أو عاملٌ شريف، لم تُسلّط عليه الأضواء، ولم يُكرّم إلا في صمت قبره.

نحن في زمنٍ تعلو فيه الجيف سطح البحر، بينما تُدفن الدرر في قاعه.

فلا تستغرب عندما ترى الفاسد مكرمًا، والمنافق مرفوعًا، والكاذب صاحب سلطة…

إنها ثقافة "الفسيخ"، حيث الفساد إذا طُبخ جيدًا، صار مقبولًا بل ومحبوبًا.

لكن… هل انتهى الأمل حقًّا؟

رغم كل هذا السواد، لا. 

فالأمل ليس صدىً عابرًا، بل جوهرٌ أصيل، يختبئ أحيانًا خلف الضباب، لكنه لا يموت. كما يبقى الدرّ درًّا، وإن طال اختفاؤه بين الرمال، تبقى القيم النقية حيّة، ولو خفت صوتها. هناك دائمًا من يرفض الانسياق وراء القبح، من يختار أن يظل نقيًّا، حتى لو كلّفه ذلك العزلة والصمت. أولئك هم بذور الرجاء، هم الدرّ الحقيقي الذي إن أُجهدنا في البحث عنه، وجدناه، وإن غفلنا عنه، افتقدناه.

لا يأس مع الباطل وأن كان صاخبًا، والحق همسًا… فالمعارك الأخلاقية لا تُحسم بضربة واحدة، بل تُحسم بالصبر، بالإصرار، وإيمانٍ لا يلين.

ويبقى السؤال معلقًا… يتسلل إلى ضمائرنا جميعًا:

هل سنبقى نُمجّد الفسيخ… وننسى طعم البحر الحقيقي؟