الثلاثاء 15/أكتوبر/2024
عاجلعاجل

عن الإلحاد وموضاته الجديدة

لم يكن الإلحاد يوماً ظاهرةً في التاريخ الإسلامي ذات حضور يذكر كما هو حاله اليوم؛ فعلى امتداد تاريخنا الإسلامي لم يسجَّل سوى حالة واحدة ذات حضور لافت وبارز للظاهرة الإلحادية في تاريخ الإسلام، وقد أصبح صاحبها رمزاً للإلحاد والزندقة معاً في التاريخ الإسلامي، وهو هنا ابن الراوندي الشهير بأبي الحسن أحمد بن يحيي الراوندي (٨٢٧- ٩١١)م، والذي كان معتزلياً فخالف شروطهم فنبذوه وأخرجوه منهم جزاءً لمخالفته فكر مدرستهم، فغادرهم إلى التشيع وألف كتاباً مهما في الإمامة، لكنه بقي متنقلا من فكرة إلى أخرى يبيع ويشتري بفكره.

 

فقصة ابن الراوندي، ربما ظلت هي القصة الوحيدة التي يمكن الوقوف عندها، ولم يتعدَّها لغيرها، أي إن الإلحاد لم يتحول إلى ظاهرة مكتملة في التاريخ الإسلامي، وذلك مؤشر على أن موضوع الإلحاد من الأمور التي لم تجد لها بيئة خصبة للانتشار فيها، بالنظر إلى المناخ الفكري المفتوح لسائر الأفكار، عدا عن حضور الخطاب العقلاني أيضا في النص القرآني ذاته، الذي ترك مساحةً للنقاش والحوار والتدبر والتأمل لكل متأمل، مما أغلق على المتشككين باباً كانوا سيسلكونه للتشكيك ومن ثم الإلحاد.

 

أما الإلحاد اليوم- وفي العالمين العربي والإسلامي تحديداً- فليس له جذر ولا نموذج يُبنى عليه، وإنما ظاهرة منقطعة الصلة لا يحكمها مسار فكري وتاريخي واحد، ولا هي نتاج استبداد ديني كما كان حال الإلحاد في السياق الغربي الأوروبي، حيث سطوة الكنيسة وسلطتها التي قمعت صوت العلم والمنطق، فلجأ الناس إلى ردة فعل مضادة للكنيسه وسلطتها الدينية. وبالتالي، حينما نأتي اليوم لتأمل الظاهرة الإلحادية في العالمين العربي والإسلامي، نجد أنها ظاهرة بموضات وأشكال ساذجة وسطحية غبية لا معنى لها.

 

فالظاهرة الإلحادية في الغرب، نشأت كردة فعل على سلطة وسطوة واستبدادية الكنيسة التي احتكرت كل شيء، وحاولت تفسير العالم وفقا لتوجهها ورؤيتها، وهي تلك الرؤية التي تتناقض مع أبسط منطق علمي مجرد، هذا عدا عن استبدادية الكنيسة حتى للسلطة السياسية التي كانت تكتسب شرعيتها ومشروعيتها من رضى باباوات الكنيسة وكهنتها وحدهم.. هم من يمنحونها الشرعية والمشروعية.

 

لقد ارتكبت الكنيسة أبشع صور الاستبداد، وقمعت كل بوادر الحركة العلمية في أوروبا، من جاليليو وحرق كتبه ومصادرة حريته، وكذلك الفيلسوف جردانيو برونو الذي أُعدم، وغيرهما كثير ممن اصطدموا بالكنيسة، ولم يسلم أحد منها ومن ظلمها، وهو ما دفع كثيراً من المفكرين والفلاسفة لإعلان موقف، وخاصة بعد ثورة التنوير اللوثرية لمارتن لوثر (١٤٨٣-١٥٤٦)م، وكذلك جون كالفن (١٥٠٩-١٥٦٤)م، وقيادتهما لحركة الإصلاح البروتستانتية، والتي كانت بوابة الخروج إلى عالم التنوير الأوروبي، الذي بدأ بضرب مسلمات الكنيسة الكاثوليكية فيما يتعلق باحتكارها للنص الديني واحتكارها لتفسيره.

 

لقد بدأت ثورة التنوير بعد ذلك تتبلور مع عدد من المفكرين وفلاسفة التنوير، كروسو وفولتير وديفيد هيوم وكوبر نيكوس وديكارت وكانط، وغيرهم ممن رأوا أن التنوير يبدأ بهدم مسلمات الكنيسة ونسف رؤيتها وتصوراتها، وهو ما يعني نسف كل المقولات الدينية، وهو الشيء الذي لم يتوقف عند مجرد نسف المقولات الدينية، وإنما وصل إلى إنكار السردية الدينية نفسها، أي فتح باب الإلحاد واسعاً أمام الناس، وهو ما أسس لموجة إلحاد واسعة، بدأت من إنكار النص الديني وتبني المقولات العلمية وحتى العدمية منها، وهكذا تأسست الظاهرة الإلحادية غربياً وأصبحت مذهباً قائماً بذاته، مع مذهب مقابل له لايزال ممسكاً ومحاولاً التوفيق بين النص الديني والحقيقة العلمية اليوم.

 

بالمقابل، في العالم الإسلامي، لم يكن ثمة صراع مثل هذا بين الدين والعلم أساساً، فالإسلام وبنصه القرآني فتح المجال واسعاً أمام العقل، وإعماله في الأنفس والآفاق، كقوله تعالى: {سنريهم أياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنّه الحق} [فصلت: 53]، وقوله تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} [العنكبوت: 20]، هذا بالإضافة إلى كل مشاهد التدبر والتأمل والعقلانية، التي يختم بها النص القرآني آياته (أفلا يعقلون، أفلا تدبرون..)، وكلها آيات تحض على استخدام العقل والتأمل والتدبر في الكون وآياته، لا مجرد التسليم المطلق دون تدبر.

 

وبالعودة إلى الظاهرة الإلحادية اليوم، وفي صفوف الشباب العربي، فلا أعتقد أن لهذه الظاهرة أي علاقة باعتمالات هذه الظاهرة في غيرها من المجتمعات الغربية تحديداً؛ فلا السياق ولا الاجتماع ولا الصراع بين المنطق الديني والعلمي قائم في العالم العربي، وإن هذه الظاهرة اليوم لا يمكن تفسير تشكُّلاتها بدقة إلا من خلال تصنيف هذه التوجهات الإلحادية الهشة وأنواعها، ويمكن تقسيمها إلى أربعة أنواع أو نماذج مختلفة .

 

– فالنوع الأول، وهو الإلحاد المعرفي أو الفلسفي، أو إلحاد السؤال والتساؤل، والشك الباحث عن يقين، وهذا النوع من الإلحاد هو الأقرب إلى الإيمان والبحث عن معنى، وهو قرين التأمل والقراءة والاطّلاع، والبحث عن إجابات، وهذا النوع من الإلحاد نادر وقليل جداً بالنظر إلى بواعثه وأسبابه المتمثلة بالبحث عن إجابات علمية لأسئلة إيمانية تأملية، وشكوك ناتجه عن فضول معرفي مغرق، بدون أي كوابح إيمانية، أو لنقل بدون أي تنشئة إيمانية وتكوين علمي متماسك.

 

وهذا النوع من الإلحاد- كما يقول عنه المفكر الإسلامي علي عزت بيجوفيتش- إلحاد أقرب إلى الإيمان منه إلى الكفر، لأنه إلحاد نابع من سؤال وشك وبحث عن إجابات، ورحلة البحث والشك هذه كفيلة بأن تقود صاحبها إلى رحابة الإيمان وهدأة النفس وطمأنية الضمير، لأن من يبحث عن حقيقة حتماً سيهتدي إليها في رحلة البحث عنها، على عكس من يتشكك لا من غياب اليقين لديه ولكن من سوء النوايا وغلبة الخفة في نفسه وعقله.

 

– أما النوع الثاني من الإلحاد فهو ما يمكن تسميته بالإلحاد الغرائزي، وهذا النوع من الإلحاد يقوم على فكرة الخروج من دائرة تأنيب الضمير، والبحث عن أي شيء يمكنه أن يقتل ويميت تأنيب الضمير الفردي لدى صاحب هذا النوع من الإلحاد، الذي يقوم على استحلال كل المحرمات في رحلة البحث عن الملذات والشهوات، وهذا الإلحاد الغرائزي هو إلحاد واضح اليوم وظاهر في الساحة، في ظل الفضاء الإلكتروني المفتوح على مصراعيه لكل ما تقذف به وسائل التواصل من مشاهد وصور خادشة للحياء وهاتكة للأستار، عدا عن مجافاتها الذوق العام.

 

بدأت تظهر صور هذا النوع من الإلحاد اليوم في أوساط الشباب وفئة المراهقين الصغار، ممن لم يجدوا محاضن تربية حقيقية وخطاباً دعوياً تربوياً عقلانياً لا وعظياً، فالخطاب الوعظي وحده لا يكفي في مواجهة هذا النوع من الإلحاد، لأن الخطاب الوعظي يعجز عن مقارعة فورة الغرائز وسيلانها في ظل فوضى الفضاءات المفتوحة، التي تمتلئ بالتفاهة والانحطاط، كما هي أيضا مليئة بالخطاب الوعظي العاجز عن معالجة هذا الاختلال القائم في منظومة القيم والأفكار وسيولة التفاهة وأدواتها.

 

– النوع الثالث هو الإلحاد الانتقامي أو الإلحاد العكسي، وهذا النوع من الإلحاد ناتج عن الخطاب الديني السطحي، الذي حول الدين إلى مجرد خطاب وعظي سطحي خالٍ من المنطق، وعاجز عن تقديم إجابات لتساؤلات الناس البسيطة في حياتهم، وهو خطاب سياسي أساسا تلبّس الوعظ وسيلة لمواجهة السياسة والاشتغال بها .

 

وهذا النوع من الخطاب الوعظي هو أحد أسباب هذا النوع من الإلحاد؛ لأنه كان يقدم بشارات وشعارات كبيرة للناس في حياتهم ولكن لم يتحقق منها شيء، فكانت النتيجة عكسية جداً، وهي تسرب الناس من حول هذا الخطاب الوعظي الجامد وكفرانهم بالخطاب الديني كله، ما يجعل هذا النوع من الشباب والفتيان أكثر عرضة لأي استقطابات إلحادية ضد الدين والخطاب الديني كله، وهذا النوع هو ما ظهر بشكل كبير بين الشباب عقب فشل ثورات الربيع العربي.

 

– النوع الرابع من الإلحاد هو ما يمكن تسميته بالإلحاد السوقي، وهو نوع من الإلحاد الذي يقوم على فكرة العرض والطلب، بمعنى أن ثمة حالة من العطالة والبطالة والتفاهة وغياب المعنى منتشرة بين أوساط الشباب اليوم، مع فضاء مفتوح للتواصل وشيوع خطاب التفاهة، وفي المقابل حالة الانسداد القائمة في العالم العربي، وعجز الشباب عن مواجهة متطلبات الحياة، وهو ما يسهّل على بعض الأطراف الاشتغال على فكرة استقطاب هؤلاء الشباب بالوعود، وتقديم المساعدات مقابل موقف معلن من الدين في هذه المجتمعات وعاداتها وتقاليدها.

 

وهذا النوع من الإلحاد له حضوره الخطير والبارز، والذي يتمظهر اليوم بظاهرة الفمينستات والشذوذ وحقوق الأقليات… وهلم جراً، وثمة جهات دولية داعمة ومشجعة لهذا النوع من الإلحاد، ويتم استقطاب هذا النوع من الضحايا وتسهيل انتقالهم للغرب، وثمة مؤسسات تشتغل على هذا النوع من عديد من الدول الغربية أيضاً.

 

وختاماً، إن الإلحاد في العالم الإسلامي ليس قناعة معرفية تتشكل بقدر ما هو واقع سياسي واقتصادي واجتماعي ملغوم ومضطرب، يحتاج إلى حلول مشكلاته، وإعادة تطبيع الحياة في هذه المجتمعات، وحضور الدولة بكل مسؤولياتها من التعليم والتطبيب والخدمات والأمن والاستقرار، وإن عودة الحياة في هذه المجتمعات بعودة الدولة، وبعودة الجماعات الدعوية أيضاً لممارسة دورها بعيدا عن السياسة وتعقيداتها، وتجنبها الخلط بين الديني والدنيوي، وتفرغها لمسارها التربوي الدعوي الثقافي الواضح.

 

المصدر: مدونة العرب